مفهوم السلام في اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام لجورج تامر وآخرين

مراجعة: ياسين اليحياوي*

Georges Tamer (ed.) .The Concept of Peace in Judaism, Christianity and Islam. Key Concepts in Interreligious Discourses 8. Berlin: Walter de Gruyter, 2020. vi + 176 pages. e-ISBN (PDF) 9783110682021

قد يبدو من المُفارقة القول إنَّ السّلام هو القيمة المركزيّة في الأديان الإبراهيميّة، في الوقت نفسه الذي يُوثِّق المؤرِّخ تورُّط المتديّنِّين في موجة الحروب الدينيّة التي اجتاحتْ العالم مُنذ العصور الوُسطى وما زالت تُرخي بظلالها علينا، ويلحظ السوسيولوجي تغلغل توظيف الدين في الصراعات السياسيّة الراهنة؛ يأتي هذا الكتاب ليُفكِّك هذه المُفارقة، ويُعيد الاعتبار لمفهوم السلام في الأديان الإبراهيميّة، بل ويقترح رؤيةً للسّلام مُستوحاة من نصوص التوراة والعهد الجديد والقرآن، يُمكن لها أن تُنير جهود صُنَّاع السّلام في عالمنا اليوم.

صدر الكتاب باللغة الإنجليزيّة عام 2020، عن دار نشر دي گرويتر De Gruyter، وهو الجزء الثامن من سلسلة منشورات وحدة بحث «المفاهيم الأساسيّة في الخطابات البين-دينيّة»، التابعة لمركز الأبحاث متعدد التخصصات بجامعة إرلنغن نورنبيرغ بألمانيا.

تروم وحدة البحث من خلال دراسة مفهوم السّلام، وباقي المفاهيم الدينيّة، تأسيسَ أركيولوجيا للمعرفة الدينيّة؛ وإظهار بعض القواسم المشتركة والاختلافات في الأديان من خلال الدراسة الحواريّة لتاريخهم المفاهيمي؛ وأيضا إبراز دور البحث الأكاديمي في تعزيز التفاهم والاحترام المتبادلين والسلام بين المجتمعات الدينيّة الثلاثة. وجاء هذا الكتاب في فصوله الأربعة تعبيرًا عن هذا المُراد.

السلام النبوي سبيلا لإنهاء الحروب والصراعات

في الفصل الأول، عالج أليك إسحاق Alick Isaacs، المتخصِّص في التاريخ اليهودي والفلسفة، مفهومَ السلام في اليهوديّة. ومع تأكيده على وفرة الدراسات اليهوديّة المُعاصرة بشأن موضوع السلام، نظرًا للواقع السياسيّ والعسكري الذي لم يسبق لليهود أن عاشوا نظيره في تاريخهم، فإنَّه ينهج لنفسه خطًا مُختلفًا، يُحاول من خلاله تقديمَ إضافة جديدة في موضوع راهن.

يبحث إسحاق في مفهوم السلام النبوي1 المسيحاني الذي بشَّر به الأنبياء، وهو مفهومٌ يرتبط في الكتاب المقدس بجمع المنفيِّين إلى أرض إسرائيل، وعودة الأرض بأكملها إلى الشعب اليهودي تحقيقًا للعهد التوراتي (ص 4). إنَّ المفارقة التي يلحظها إسحاق، أنَّ هذا النوع من السّلام يُشكِّل عقبة في طريق حل النزاع، إذ تُصبح رغبة اليهود المتديّنيّن في تحقيق السّلام النبويّ عائقًا أمام أي مُفاوضات أو تسويّة سياسيّة لإحلال السلام. وبُغية إيجاد حلٍ لهذه المُفارقة، يقترح إسحاق إعادة تحديد لمفهوم السّلام النبوي، تسمح بإبراز إمكانات المفهوم في تحقيق السلام على أرض الواقع، مُعتمدًا في ذلك على ثلاث أفكار أساسيّة: أولها، معاداة السِياسة؛ وثانيها، الوحدة بين المتناقضات؛ وثالثها، معرفة الله.

يستعير إسحاق فكرة «معاداة السياسيّة» من جيورجي كونراد György Konrád، مع إضفاء تعديل عليها سمح له بوصف سِمة مُهمة في نموذج السّلام النبويّ، حيث يقل دور السلطة في الحياة الجماعيّة. إنَّ العنصر الأَهم داخل الجماعة اليهوديّة التي تعيش السلام النبوي هو الاختيار الحُر، الذي يتأسس على اختفاء الحضور الإلهي، أو ما تُشير إليه التوراة بـ«وجه الله الخفي»، وهو لاهوت يُفهم أيضا بكونه إرادة الله عدم التدخل في التاريخ. تُؤكد هذه الفكرة، ومثيلاتها أيضا في نصوص القَبَّالة التي أحال عليها إسحاق، على أنَّ الحرية أصبحتْ مُمكنةً من خلال اختفاء الذات الإلهيّة والانسحاب من السُلطة. وهو ما يكشف في نظر إسحاق عن السمة الأساسيّة الأولى للسلام النبوي، بكونه ذا طبيعة معادية للسياسة، إذ الرؤية التوراتيّة تشير إلى أن السلام المثاليّ لشعب إسرائيل لا يُمكن أن يكون نتيجةً مباشرةً للعمل السياسيّ، بل يجب أن ينبع من سلام القلب (ص 8)، أو حسب التعبير اليهودي «إزالة الغشاوة عن القلب». الأمر الذي يتطلب، وفق إسحاق، نقلة روحيّة عميقة في كيفية تفاعل البشر مع بعضهم البعض ومع العالم ومع الله (ص 9).

لا يتحقق السلام النبوي في النصوص اليهوديّة من خلال توحيد الرأي وإلغاء باقي المُختلفين. فمن خلال تتبع نصوص التوراة والكتابات اليهوديّة، يرى إسحاق أنَّ السلام النبوي هو تعايش بين وجهات نظر مُتضاربة، أو كما نقل عن الربي الحسيدي نحمان البريسلافي Nachman of Breslov «السلام هو وحدة بين نقيضين» (ص 20). ومن ثم، يُصبح السعي وراء الوحدة في التعدديّة هو السعي وراء السلام النبوي الكامل كما يُريده الله. على النقيض من ذلك، فإن التفاوض وتقديم التنازلات هو سلام سياسيّ ناقص كما يُريده الإنسان. وبهذا المعنى، يرى إسحاق أنَّ الوحدة بين المتناقضات هي مفهوم مناهض للسياسة، يسمح بوضع أسس للسلام النبوي (ص 22).

على أنَّ رؤية الوحدة بين المتناقضات، لا تتحقق حسب إسحاق إلا بمعرفة الله، باعتبارها تجربة شخصيّة أو حالةٍ ذهنيّة روحيّة، وهي السمة الثالثة التي يقترحها الباحث لفهم السلام النبوي. إنَّها تُشير إلى حالة من الوعي بأنَّ العالم بكل مفارقاته وتناقضاته هو تعبيرٌ مخلوقٌ موحد عن كمال الله. إنَّها حالة روحيّة/ صوفيّة يعود فيها إسحاق للاقتباس من ابن ميمون عند حديثه عن السلام بكونه حالة لا يوجد فيها جوع ولا حرب ولا غيرة ولا منافسة بين الناس لأن الجميع أطراف مختلفة في كائن حي واحد يتفوق على إحساسنا بأنفسنا كأفراد (ص 31). إنَّها الوحدة بين الناس التي لا تفرض التوحيد عليهم.

يختم الباحث بالإشارة إلى انَّ السلام الذي يُعدُّ مركزيًّا لفهم اليهوديّة هو سلام نبوي وليس سلامًا قانونيًّا أو سياسيًّّا. وهنا يعود إسحاق إلى المُفارقة الأولى، متسائلًا عن سبب فشل جميع مبادرات السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين؛ وعن سبب تورط الفاعلين الدينيّين، عند كلا الطرفين، في إدامة حالة النزاع. وفي هذا الصدد، يُؤكد إسحاق على ضرورة التفريق بين الدين والطريقة التي يتصرف بها المتديّنون. وهو أمر يستدعي أيضا التفريق بين السلام النبوي والسلام السياسيّ. إذ في الوقت الذي تتجه فيه جميع الأطراف إلى مفاوضات تروم وضع حل سياسيّ للنزاع، فإنَّ فكرة السلام النبوي، رغم مركزيَّتها في التراث اليهودي، لا يتم استدعاؤها في النقاشات الدبلوماسيّة والسياسيّة لحل النزاع. لذلك يطمح إسحاق إلى نقل النقاش حول السلام النبوي من الأوساط الأكاديميّة إلى الأوساط السياسيّة والاجتماعيّة، أملًا في أن يُصبح أسلوبًا عمليًّا لصناع السلام في منطقة الشرق الأوسط.

إنّ ما قدمه إسحاق عن مفهوم السلام النبوي، تجعله نمط حياة، ليس فقط للمُتديّنيّن من اليهوديّة، ولكن أيضا لغيرهم من الأديان. وإنْ كان إسحاق قد دافع عن إمكانات المفهوم على القيام بدور محوري في حل نزاعات الشرق الأوسط، فإنَّ التطرق لقُدرته على تأسيس سلام خارج هذه المنطقة غاب في هذا الفصل. وهو أمر يحتاج لمزيد من التأسيس النظري لفك ارتباطها بجغرافيّة الأرض، لاسيما أنَّ كُلا من التراث الحسيدي ونصوص القبّالة يسمحان بالانتقال من المعنى الحرفي لأرض الميعاد إلى معنى رمزي، نظرًا لارتباطهما منذ قرون بيهود الشتات.

إرادة الله في إحلال سلام إيجابي

في الفصل الثاني، تطرَّق فولكر شتومكه Volker Stümke، المتخصص في علم اللاهوت المسيحي، لمفهوم السلام في المسيحيّة2. وِفق الباحث، فإنَّ مفاهيم السلام والاستقامة والعدالة، مُرتبطة فيما بينها ارتباطًا وثيقًا. ومن ثم، فإنَّ السلام إنجاز فردي وسياسيّ واجتماعيّ في الآن معا.

ينطلق شتومكه من دراسة المفهوم اللاهوتي للسلام، مُبرزًا تجذره في الأديان الإبراهيميّة الثلاثة في صورته الأخرويّة، أي انتظار قدوم المسيح في آخر الزمان، وهذا يعني أنَّ السلام يعتمد على إرادة الله.

يستدل الباحث على رأيه من خلال مجموعة من النصوص الدينيّة في العهدين القديم والجديد، ليتوصل إلى أنَّ الكتاب المُقدس يتحدث عن نوعين من السلام، سلام إيجابي تتحقق معه إرادة الله في آخر الزمان، وتُكسر فيه دائرة العُنف بشكل نهائي؛ وسلام سلبيّ يُقيِّد العُنف ويحدُّ من انتشاره.

وخلافًا لليهود والمسلمين الذين مازالوا في انتظار قدوم المسيح، يرى شتومكه أن المسيحيّة تتفرَّد بلاهوتها الذي يتأسس على الإيمان بأن عيسى هو المسيح المُبشَّر به في التوراة، وهذا يعني أن العصر المسيحاني قد حل بالفعل، ومن ثم يُمكن للسلام الإيجابي أن يتحقق على الأرض. ورغم أنَّ هذا السلام هو أقرب لليوتوبيا منه إلى الواقع، إلا أنَّ مُحاولة تحقيقه، وفق هذا المنظور، تُعطي للمفهوم إمكانات عدة، وأملًا مُستقبليًّا للمسيحيين في نشر السلام وجعله حقيقةً عالميّة.

هنا أيضا يجد الباحث نفسه أمام مُفارقة، إذ كيف يُمكن التأسيس لسلام إيجابي يشمل جميع الناس؟ بُغية الإجابة عن هذه الإشكاليّة يُنقِّب شتومكه في السياق التاريخيّ لتطور مفهوم السلام، منذ بداية المسيحيّة إلى الدولة الحديثة. ومع حضور الجانب الانتقائي في اختياره للنُّصوص، إلا أنَّه كان مُوفقًا في تقديم بحث أركيولوجي مُهم حول مفهوم السلام في المسيحيّة.

يُشير شتومكه إلى أنَّ الجماعة المسيحيّة المُبكرة بنتْ حياتها على قناعات إيمانيّة لم تكن محلَّ توافق داخل الجماعات اليهوديّة، ولا حتى بين المسيحيين أنفسهم، لذلك نجد أنَّ النصوص التي تتحدث عن هذا السياق التاريخيّ تطرَّقتْ لقضيّة العيش بسلام مع قناعات مُتباينة، لتُؤسس إلى الفكرة اللاهوتيّة القائلة إنَّ الله نفسه هو الذي يُنعم على البشر بالإيمان. غير أنَّ التطورات التاريخيّة التي شهدتها المسيحيّة، لاسيما بعد تحولها إلى دين رسمي للإمبراطوريّة الرومانيّة، كان لها تأثير على مفهوم السلام. فأمام وجود سلطتي الدين والسياسة، اللاتان تتدخلان في حياة الناس، كان على اللاهوت المسيحي إيجاد صيغة للسلام تمنع تحكم إحدى السلطتين في الأخرى. لم تكن هذه الصيغة مُعطى جاهزًا، فقد تطلب ذلك قرونًا عدة إلى أن تصل المسيحيّة إلى صيغة توافقيّة، تحد من دائرة العُنف، وتكون مُنطلقًا لتحقيق سلام إيجابي.

بعد الاستقراء الذي قدَّمه شتومكه لنصوص العهد الجديد، توصل إلى أنَّ المسيحيّة تُقدم ثلاث إجابات لطريقة عمل السلطتين الدينيّة والدنيويّة: يظهر الجواب الأول في مفهوم التعايش، إذ لا ينبغي على المسيحيين إنكار طاعة الحكام، في الوقت نفسه الذي يجب عليهم أداء واجباتهم العلمانيّة؛ أما الجواب الثاني فهو مفهوم التناقض، الذي يقع في نهاية التاريخ، حيث ينتظر المسيحي قدوم يوم الدينونة ليَقضي فيه الله على قوى الشر؛ في حين كان الجواب الثالث هو مفهوم التعاون، حيث تتعاون السلطتان معًا لتحقيق سلامٍ سلبيّ على الأقل. وتكمن الفكرة الأساسيّة التي يُشير إليها شتومكه، أنّ الله وحده هو من يُحدِّد علاقة السلطتين الدينيّة والدنيويّة، وهذا من شأنه أن يمنع العنف، إذ حتى في حالة التناقض، فإنَّ المسيحي غير مأمور بمواجهة السلطة الدنيويّة، فالله وحده من سيُحقق السلام الإيجابي، وهذا يعني ضمنيًّا أن إصدار الأحكام النهائيّة ليس مُهمة المسيحيين أو الكنيسة.

لقد كان الغالب في تاريخ المسيحيّة أن تكون العلاقة بين الكنيسة والدولة مبنيّة على مفهوم التعاون. فمنذ القرن الرابع الميلادي أصبحتْ المسيحيّة دينا رسميا للدولة، وصارت العلاقة بين الكنيسة والدولة مدار اهتمام الكتابات اللاهوتيّة، لاسيما عند اشتباكها مع سؤال إشكالي عن كيفية تعامل اللاهوت مع الحروب والصراعات. يُركز الباحث بشكل أساسيّ على الإجابات التي قدَّمها كل من أوغسطين وتوما الأكويني ومارثن لوثر، ليخلص إلى أنَّ التقليد المسيحي تقبَّل تعاون الكنيسة مع الدولة العلمانيّة من أجل تحقيق السلام السلبيّ على الأرض، الذي هو إرادة الله في أن يعيش الناس معًا بدون حرب أو قتال، إلى حين تحقيق السلام الإيجابي. وحدها الدولة هي التي تحتكر استخدام القوة، في حين أنَّ للكنيسة شؤونها الدينيّة والروحيّة.

ساهم هذا التمايز في المهام بين الكنيسة والدولة، الذي أخذ طريقًا طويلا، إلى التأسيس لمجموعة من المفاهيم في الفلسفة السياسيّة، من قبيل حرية العقيدة كحق من حقوق الإنسان واحتكار الدولة للعنف، وهي إشارة مُهمة من شتومكه عن السياق التاريخيّ لعلمنة المفاهيم اللاهوتيّة التي كانت في العصر الوسيط من مُقتضيات الإيمان المسيحي.

السلام يُمكن أن يتحقق على الأرض

في الفصل الثالث الذي تطرق لمفهوم السلام في الإسلام، ارتأت أسماء أفسر الدين Asma Afsaruddin، المتخصصة في الدراسات الإسلاميّة، أنَّ تبدأ مناقشة مفهوم السلام في السياق الإسلاميّ بالتركيز على مصطلح الجهاد بمعانيه المتعددة والمتنازع عليها في الأدبيات الإسلاميّة3. فإنْ كان مفهوم السلام مركزيًّا في الإسلام، شأنه في ذلك شأن اليهوديّة والمسيحيّة، فإنَّ السياق التاريخيّ لظهور الإسلام وللدعوة النبويّة، جعل تحقيق السلام يتطلب مُقاومة ومدافعة أولئك الذين يسعون إلى تخريبه (ص 100).

تعود أفسر الدين إلى معنى الجهاد في القرآن، حيث استُخدم للإشارة إلى الجهد النفسي الذي يبذله المُؤمن للثبات على أداء الفرائض الدينيّة والابتعاد عن شهوات الدنيا، كما استُخدم أيضا في سياق الجهاد العسكريّ لدفع الظلم الذي يتعرض له المؤمنون، إذ لا يمكن شن الحرب إلا كملاذ أخير عندما يتم استنفاد الوسائل السلميّة الأخرى لحل النزاع. وبهذا المعنى، ترى أفسر الدين أنَّ القرآن أسَّس لقيم أخلاقيّة، تمنع بدء الأعمال العدائيّة وتسمح بالعنف فقط لأغراض دفاعيّة، مع وجود آيات عدة تدعو المؤمنين للتحلي بالصبر، سواء خلال الفترة المكيّة الأولى، أو حتى في الفترة المدنيّة التي كانت الغلبة العسكريّة فيها للمسلمين. غير أنَّ أدبيات المفسرين والفقهاء ركَّزتْ أكثر على المعنى العسكري للجهاد، ليتوارى معه المعنى الروحي/ الصوفي.

تُشير أفسر الدين إلى أنَّ النسخ كان الأداة التأويليّة التي استخدمها المفسرون والفقهاء لإبطال الأوامر القرآنيّة المُتعلّقة بأخلاقيات الحرب، وهي الأداة نفسها التي سمحت للحُكام بتبرير حروبهم؛ مما أدى إلى تقويض النقاشات المبكرة الثريّة حول الجهاد، وقسَّم العالم إلى دار الإسلام ودار الحرب الذي لا أصل له في القرآن (ص 124).

بعد هذا التأريخ الأركيولوجي لمفهوم الجهاد، تطرقتْ أفسر الدين لمفهوم السلام، مُعتبرة إياه ليس مجرد غياب للعنف والصراع، أي ليس سلامًا سلبيّا كما حدده شتومكه في تحليله لمفهوم السلام في المسيحيّة، بل هو بالأحرى الهدف الروحي النهائي للحياة، وعلاقة سلام أبدي فردوسي بين الله والمؤمنين. إنَّ شموليّة هذا السلام تقوم على سمتين أساسيّتين: أولها، الاعتراف بالمساواة في الكرامة لكل إنسان؛ وثانيها، ضمان العدالة للجميع (ص 132). بهذا التحديد، يُصبح السلام في الإسلام غاية مقصودة في الحياة الدنيا، وواجبًا دينيًّّا يجب تحقيقه، بالصلح بين المؤمنين وتحويل الأعداء إلى حلفاء عن طريق التسامح والرحمة. وبهذا المعنى، يُمكن للمُجتمع أن يُحقق «السلام الإيجابي»، لأنه يعالج عدم المساواة والظُلم باعتبارهما الأسباب الجذريّة للعنف والصراع.

إنَّ القراءة التي قدَّمتها أفسر الدين لمفهومي السلم والجهاد، تسمح لها بالتأكيد على أنَّ وجهات النظر الإسلاميّة حول السلام يُـمكن لها أنْ تُساهم في النقاشات العالميّة المعاصرة بشأن العنف وحل النزاعات. ومن ثم، يُمكن للإسلام إنارة أصحاب القرار السياسيّ، ومساعدة المُجتمعات لتعزيز السلام العالمي.

يضم الفصل الرابع والأخير الذي ساهم فيها كل من جورج تامر Georges Tamer وكاتيا ثورنر Katja Thörner وفينسيل فيدينكا Wenzel Widenka، خلاصة تركيبيّة لما سبق عرضه في الفصول الثلاثة، مع التركيز على السمات الأساسيّة المُشتركة بين اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام، وذلك من خلال تجريد مفهوم السلام من أبعاده السياسيّة والعسكريّة والتركيز، بدلا من ذلك، على تلك الجوانب التي تتناول العلاقة بين الله والإنسان. إنَّه تأكيد على مركزيّة مفهوم السلام في الكتب المقدسة لليهوديّة والمسيحيّة والإسلام، وفي تقاليدهم اللاهوتيّة، باعتباره الهدف النهائي للوجود الإنسانيّ، ليس فقط باعتباره سلاما مثاليا سيتحقق في الآخرة، بل أيضا في إمكانيّة تحقيقه على الأرض.

* * *

ختامًا، يتأكد في هذا الكتاب من خلال الحُجج التي قدّمها كل من إسحاق وشتومكه وأفسر الدين، أنَّ للأديان الإبراهيميّة إمكانات حقيقيّة لإحلال السلام. غير أنَّ هذه الإمكانات تظل أمام تحدٍ مُستمر مع التفسيرات الدينيّة التي تنحو تُجاه العنف، ومع التوظيفات السياسيّة للدين التي تُبرِّر الحروب والصراعات. لذلك أجد من المُناسب أن أختم هذه القراءة بالمُلاحظة التي ذكرها شتومكه في حديثه عن الكيفيّة التي يتحول فيها الدين إلى مصدر لِلعنف.

إنَّ العنصر الأساسيّ الذي يجعل الدين منبعًا للشر هو تطلع المتديّنيّن إلى احتكار الحقيقة المُطلقة، إذ يجرُّ هذا الطموح أصحابه بسهولة نحو التعصب والعنف تُجاه غير المؤمنين بهذه الحقيقة. تقع المسؤوليّة الأكبر في مواجهة هذه التفسيرات على عاتق المؤسسات الدينيّة والمنتسبين إليها، للتذكير بأنَّ مهمة القاضي والكاشف عن الحقيقة الأبديّة هي للإله وحده. وهذا التذكير على بساطته، يتطلب إصلاحًا دينيًّّا لاهوتيًّا لتصوُّرنا عن الله وعن علاقته بالإنسان.

حضرتْ هذه الفكرة في الفصول الثلاثة لكن بصورة خافتة، ولعل ذلك مبرر في نظر الباحثين، على أساس أنهم أرادوا التأسيس النظري لمفهوم السلام في الأديان الإبراهيميّة، دون الدخول في متاهات التأويلات للنصوص الدينيّة؛ لكن مع ذلك، يبدو أن أي تأسيس نظري لفكرة السلام، يحتاج ولابد إلى التعامل مع مُختلف التقاليد الدينيّة. إذ الإشكاليّة ليستْ في خُلو الكتب المقدسة من محوريّة فكرة السلام، ولكن في كونها، رغم محوريتها في النص، تظل غائبة في الممارسة.


1 السلام النبوي هو عنوان كتاب لإسحاق صدر عام 2011، حاول من خلاله اقتراح رؤية للسلام مستوحاة من تحليل دقيق لنصوص التوراة والكتابات الحاخاميّة. يُنظر:

Alick Isaacs, A Prophetic Peace: Judaism, Religion, and Politics (Bloomington: Indiana University Press, 2011).

2 نشر شتوكه عام 2007 كتابا عن مفهوم السلام عند مارثن لوثر وأثر ذلك على الفلسفة السياسيّة الحديثة، يُنظر:

Volker Stümke, Das Friedensverständnis Martin Luthers: Grundlagen Und Anwendungsbereiche Seiner Politischen Ethik (Stuttgart: Kohlhammer, 2007).

3 نشرتْ أفسر الدين عام 2013 كتابًا عن الجهاد والشهادة في الفكر الإسلاميّ، حاولتْ من خلالها فك ارتباط العبارتين -جهاد وشهادة- عن القتال المسلح والموت في ساحة الحرب، حيث استعادت الكاتبة مجموع الدلالات التي تُعزى للعبارتين من خلال تحليلها لنصوص القرآن والحديث النبوي وأدبيات المفسرين والفقهاء، وكشفتْ عن أثر السياق التاريخيّ والاجتماعيّ والسياسيّ في تطور فهم المسلمين للجهاد والشهادة، يُنظر:

Asma Afsaruddin, Striving in the Path of God: Jihād and Martyrdom in Islamic Thought (New York: Oxford University Press, 2013).

* باحث بالمعهد العالي للدراسات الإسلاميّة Zentrum für Islamische Theologie بجامعة مونستر، ألمانيا.