تطور الدِّين إلى العقلانية

قراءة في كتاب كيف يتكون الدين؟

لألفرد هوايتهد

مراجعة: منير تمودن*

ألفرد نورث هوايتهد. كيف يتكون الدين؟. ترجمة رضوان السيد. لبنان: منشورات جداول، 2017. 118 صفحة. ISBN 9786144183564

قد يبدو كتاب كيف يتكون الدين؟ لألفرد نورث هوايتهد عصيا على الاستيعاب مفاهيميًّا، إذ لا يبدو للوهلة الأولى أنه يقدم إجابة جاهزة لسؤالية العنوان، مقارنة بحجم القلق المعرفي الذي يحويه المتن الداخلي، وبالنظر إلى ما يوهم افتقار الكتاب إلى النسقية والتنظيم. غير أن الإلمام بالمنهج التطوري في فهم الدين في سياقه التاريخيّ وفي بعده الوظيفي، وفق قراءة نسقية شمولية، تحيل القارئ على إجابة دقيقة؛ إذ أنَّ تتبع المنحى الزمني العام الذي وضعه هوايتهد لتطور الدين إلى العقلانية، يُحيل إلى فكرته المركزية، وهي جعل الله مركز العالم وعلته الفاعلة، وهي فكرة تتحقق أيضا بجعل الدين والعلم كل منهما خادما للآخر.

أصل الكتاب هو أربع محاضرات (الدين في التاريخ؛ الدين والدوغما؛ المادة والروح، ثم الحقيقة والنقد) ألقاها هوايتهد في جامعة بوسطن عام 1926. جُمعت ونُشرت لأول مرة عام 1927 ثم نَقلها رضوان السيد إلى اللغة العربيّة ترجمةً وتعليقًا عام 2017؛ تناول فيها هوايتهد مسار تطور الدين في سياق الرؤية العلمية، وفي أفق استرجاع روح الدين العقلاني.

تمظهُر الدِّين

رغم أن هوايتهد يقر بصعوبة تعريف الدين، فهو يجعل منه ضرورة وجودية لازمتْ الوجود البشري المبكر، وتجلَّتْ في الضمير الإنسانيّ مُنذ فجر التاريخ. والدافع إلى الدين هو القيمة الفردية للأخلاق مهما كانت هذه القيمة إيجابية أو سلبيّة. وبحسب هذه المقولة، فإنَّ الدين واقعة اجتماعيّة تضع تصورًا عاما للحقائق التي تُؤدي إلى تغييرٍ في الأخلاق والسلوك، إذا أضفى عليها المؤمن بُعدًا عاطفيًّا عميقًا. فليس من شيء يُعلِّل دافعيّة الدين غير الدين نفسه، استنادًا إلى قناعات ذاتيّة تُعلِّل ذاتها بذاتها. وقد تأخذ الحياة الدينيّة بُعدًا واقعيًّا إذا اتصلتْ بالسلوك الحياتي والمحيط الخارجي، ولا يتأتى الأمر إلا في التفرُّد في الدين، على الاعتبار أن الدين ما يصنعه الفرد في وحدته، ولأن نُشدان الله انطلاقا من ذاتٍ فرديةٍ سابقٌ على نشدانه داخل الجماعة؛ وعلى هذا الأساس تُصبح المؤسسات الدينيّة والكنائس وأشكال السلوكات الجمعية صيغًا منقضية، قد تكون مفيدة وقد تكون عديمة الجدوى (ص 20).

تتمظهر الأشكال التدينيّة داخل المسار التطوري للدين وفق مقولتين متتاليين في الزمن داخل مسار مداه لا يقل عن ستة آلاف سنة كما يحدده هوايتهد (ص 29)، مقولة الديانات العشائرية والمجتمات القبلية التي تتطور فيها الطقوس والشعائر إلى الأحاسيس والإيمان، وتمثلها أساسا الديانات الأسيوية؛ ثم مقولة الديانات العالمية، حيث تمتاز بالتوازي والتداخل بين التطور الدينيّ والتطور الإنسانيّ الذي يدفع الدين باتجاه العقلانية، وهو الاتجاه الذي بلغ مداه مع تجربة أوروبا، وفق ما يذهب إليه هوايتهد.

يرى هوايتهد أنَّ الشعائر نشاط عضوي زائد على الحد، يشعر القائم به بالراحة رغم أنه عديم الجدوى وظيفيًّا، بينما يعمل الطقس على إثارة المشاعر من دون أن تكون هناك حاجة بيولوجية. قد يتحول إنتاج المزيد منها إلى احتفال دينيّ أو لهو أو لعب أو حركات متكررة مرافقة، إذا عملت المشاعر على إثارة الأحاسيس والوجدان (ص 22-23). أخذا في الاعتبار أن الفكرة الدينيّة الشديدة التجريد قد تكون عصية على الاستقرار والاستدامة في وعي الشعوب البدائية استنادا إلى علائق المشاعر بالشعائر، فإن الأسطورة تصبح المغذي الرئيس لها، إذ تُسوغ قيمتها الوظيفية؛ ومن ثم، تصبح الأسطورة الباعث على حاجات العقلنة القادمة.

أفق العقلانية في الدين

ظهور بوادر العقلنة في الدين في مراحله المبكرة مشروط بالنزوع نحو التفرُّد الروحي والتحوُّل إلى حالة الاصطفاء والرُسولية إذا توفرت حصرا في من هم الأجدر بها، «ذلك أنَّ كثيرًا من الناس يشعرون بأنهم مرسلون لكن القلة قليلة منهم مصطفاة بالفعل، وعندما تتناسى ديانة معاصرة هذه الحكمة ستعاني من التراجع إلى البربرية»(ص 35).

يخبرنا استقراء تاريخ التدين البشري أنَّ الجماعات الدينيّة البدائية قدَّمت أفكارًا خصبة للبشرية، لآلاف السنين قبل ظهور المسيح ، تبلورت مع مرور الزمن إلى إجابات مُقنعة عن إشكالات وجودية، وتطورت لاحقا إلى المضي قُدُما نحو وعي عالمي بالوحدة الاجتماعيّة والشعور بالمسؤولية الإنسانيّة. هذا ما جسَّدته شعوب آسيا وأوروبا على السواء؛ إذْ أنتجت المخيلة الأسيوية خلال أربعة آلاف سنة قبل الميلاد أفكارا خصبة وتنوعا دينيّا، بينما قادت أوروبا في الألفين سنة الأخيرة الأفكار الدينيّة نحو الدين العقلاني.

ذلك ما نجده حاضرا في الأديان الإبراهيمية الثلاثة، خاصة العهدين القديم والجديد اللذيْن يُشكلان الشاهد الأوضح على ارتقاء الدين إلى مستوى العقلانية. داخل هذه الأديان تتحدد علاقة الإنسان بالله باختلاف التصور لوظيفته، حيث يبحث الإنسان في الدين المعقلن عن رحمة الله وخيْريَّته حتى يكون مَثَلا له، بدل أن يبحث عن إرادة إلهية تصونه وترعى أفعاله؛ ففي الحالة الأولى يحتل الإله الرفيق الذي يُحاول الإنسان الاقتداء به، بينما يحتلّ في الحالة الثانية النِّد الذي يتوجب إرضاؤه وتهدِئته.

كما يعتبر هوايتهد أنَّ الأديان الإبراهيمية تعرضتْ عبر تاريخيّها إلى انتكاسات كادت لتقودها إلى حالة ما قبل العقلانية. ويُدلل على ذلك بحالة المسيحية، مُعتبرًا أن المفاهيم التي أحدثها بولس على معالم الصيغ الدينيّة المبكرة، وبعض مفاهيم المسيحية الأفلاطونية المبثوثة في إنجيل يوحنا، أو ما تمخض عن مخرجات المجامع الكنسية التي دفعت المفهوم السامي للإله باتجاه الثالوث، مدعوما بغرائز اجتماعيّة واندفاعات سياسيّة، جعلتْ إله المحبة يتحول إلى إله الرعب والانتقام. غير أن العودة إلى النصوص المقدسة الأصلية، كما يقترح هوايتهد، قد تُساعد على استرجاع معالم العقلنة، كما يدعو أيضا إلى الاستفادة من تجربة أديان أخرى في مسارها نحو العقلنة من قبيل البوذية والإسلام (ص 29). على هذا الأساس فإنَّ «الدين العقلاني هو الذي تنتظم عقائدة وشعائره التي جرى ترتيبها بهدف أن تتحول إلى نظام حياة يتمتع بالفكر المستنير» (ص 30).

يرى هوايتهد أنَّ ظهور البوذية والمسيحية وانتشارهما يُعد لحظة مفصلية في تاريخ الفكر البشري، إِذْ أن كلا منهما ساهم في تنوير العالم لمَّا قدَّم المسيح حياته نمطا للعقلنة، كما قدَّم بوذا عِبَرَ حياته أيضا. هذا الأمر يفسر كيف أن هوايتهد افتُتن بالبوذية والمسيحية رغم أن منهجما قائم على الحدس المباشر الذي يقوم مقام العقل في كشف الحقائق وتفسير الوقائع. نجد ذلك ممثلا في السنوات العشر التي تلت المسيح حيث توجد تقارير تشير أن خُطَب المسيح مجرد خبرة ذاتيّة وأوصاف للتأمل لا ترقى إلى مستوى نمط التفكير؛ رغم ذلك جرى فهمها وإعادة صياغة تجاربه الأولى في محاولة لعقلنة اليهودية. هذا الأمر يفسر إلى أبعد حد كيف أن هوايتهد اعتبر أفكار المسيح بمثابة نوع من أنواع العقلانية، صادرة عن الحدس المباشر (ص 48).

الدين والعلم والعالم

لا يمكن تشخيص تطوُّر الدين بمعزل عن الحديث عن علاقة التماهي بالعالم، على فرض أن العالم انطباعٌ واقعيٌّ لتوصيف ذهني -فكرة دينيّة- جرى حبكته بدقة بقوة خلَّاقة صادرة عن إبداعية المطلق -الله-، ذلك ما استند عليه هوايتهد تحديدًا في تقسيم تمظهرات المقولات الدينيّة في التّجربة الإنسانيّة تقسيمًا ثلاثيا. أولها هو المفهوم الشرقي الآسيوي، الذي يعده نظامًا «غير شخصي» -قوانين فيزيائية- للعالم صنع العالم وشكَّل عناصره، وعلى هذا الأساس يصبح النظام علة العالم؛ ثانيها، المفهوم السامي، حيث يلحظ هوايتهد وجود «ذات مشخَّصة متفرِّدة» -الإله غير المادي-، وجودها يمثل الحقيقة الميتافيزيقية المطلقة، وحضورها ضروري في خلق وتنظيم العالم، هذا المفهوم السامي ساهم في بناء الفكرة التجريدية عن الإله المتفرد المتعالي، وفي تجاوز عقدة آلهة القبيلة؛ وثالثها، المفهوم التجسمي، حيث صار الإله بحسب هذا المفهوم ذاتا مادية، يتصف بخصائص المطلق حسب المقولة السامية، والعالم وفق ذلك جزء من الحضور الإلهي وتمظهر من تمظهراته. يُفضي المفهوم الثالث إلى الانسياق نحو وحدة الوجود، رغم أنها تسوغ لحظة التقائها بالمفهوم السامي، عندما يتوافقان على جعل الألوهية علة العالم، وإن اختلفوا في طريقة اتصال الإله بالعالم.

عكس ذلك، لا يمكن بحال من الأحوال، أن يتقاطع المفهوم السامي بالمفهوم الآسيوي لأنَّ تصورهما للألوهية قائم على تضاد، وقد تُفضي كل محاولة للتقريب بينهما إلى انزياحات عقدية، تجعل الأول ينصهر في الثاني؛ هذا الأمر يفسر إلى أبعد حد كيف أن التوحيد الخالص في بعض البلدان الإسلاميّة في منطقة فارس انصهر داخل التجسيم -حلولية صوفية-.

رغم أن أطروحة هوايتهد تنتصر للمقولة السامية، تحديدًا في نسقيه اليهودي والمسيحي، إلا أنه يعيب تصورها للوحدانية الذي تُبقي الله خارج مدارك الميتافيزيقا العقلانية، وتغيِّب تماما خيريته ورحمته وإن اقتنعت نسبيا بالتفرُّد والتجرُّد والعلِّية؛ إضافة إلى تصورها أن كل برهان عقلي لا ينطلق من العالم -انتظام المادة- لا يصلح استدلالا على وجود ذات متعالية مفارقة للوجود المحسوس، هذا الأمر يفسر كيف أن البرهان الأنطولوجي -الفكرة المجردة- الذي قال به أوغسطين وأنسليم وديكارت أصبح مرفوضا في أوساط اللاهوتيين، من منطلق أن الفكرة القائمة في الذهن لا تصلح أن تكون مقدمة برهانية على «واجب الوجود».

أخذا بالاعتبار أن محدودية العلم تُرتهن بالتوصيف السطحي للظواهر، خلافا للدين الذي يسعى إلى اكتناه عُمق الأشياء وبلوغ الكمال الروحي، يصحُّ القول أنَّ الدوغما الدينيّة -الميتافيزيقا- وتجلياتها في التّجربة الدينيّة تُصبح مطابقة للمقولات الفيزيائية، لكونهما -وفق هوايتهد- منهجان متكاملان ينشدان الكشف عن وحدة الحقيقة ويجعلان من العالم موضوعا للتفكير، في لحظة يبلغ فيه الوعي الدينيّ الإحساس بقيمة الذات، ثم تتسع هذه القيمة لتصبح موضوعا للعالم وأفقا تنتظم وتمتزج فيه الخبرة الذاتيّة بالكون المادي. ذلك تحديدًا ما جعل هوايتهد يُقر أن الكون موضوعا مفكَّرا فيه شاملٌ لعالم الأشياء وعالم الأفكار معا، متداخلان ضمن منظومة علائقية ومركبة تتحدد وفق ثلاثة محددات. يتجلى المُحدد الأول في الحيوية الخلَّاقة التي تمنح العالم قوة ذاتيّة تجعل أشياءه تتجدد باستمرار، ولا يمكن فهم هذه الخاصية إلا في ظل العلاقة التفاعلية بين المادة والعقل التي تجعل العالم وحدة متماسكة؛ أما المُحدد الثاني فهو أفق الأشياء المثالية التي نجد مُثُلا لها في العالم الحقيقي، وهي فكرة قائمة على أن الخبرة الفنية والمشاعر الجمالية التي تقع في الذات مشروطة بأن تكون طبيعة الموجودات متماثلة مع العلة؛ في حين يعتبر هوايتهد أن المُحدد الثالث هو الذات الفردية الحقيقية التي يصطلح عليها بـ«الكائن غير الزماني» الحاضر في كل مراحل الإبداع الخلّاق، الذي يُعد تأثيره في القوة الخلاقة مشروطًا بوجوده، هذا الكائن يسميه الإنسان الله في الديانات العقلانية/ الإبراهيمية.

الله وفق هذه المحددات الثلاث هو العلة الأولى السابقة على كل فعل إبداعي خلَّاق، وليس من داع إلى هذا الفعل غير تحقيق القيمة الذاتيّة للأشياء في العالم الدنيوي، التي تتحول بدورها إلى غايات خلَّاقة. هذا الأمر يسوغ مركزية الله في العالم، ودوره في تشكيل الأشياء وانتظامها بشكل ينفي عن العالم العشوائية والصدفة، ويجعل من الله عينه نظام الطبيعة (ص 117).

رغم أن هوايتهد يجعل للعلم واللاهوت موضوعًا مشتركًا منشودًا يُمثله العالم، إلا أنه لا يُفهم منه ظاهريا تلاق تام بين العلم واللاهوت -اللاهوت الذي يعتمد على إله المحبة-؛ إذْ أن الفيزياء الحديثة لا تشعرنا بوجود البساطة في العالم. ذلك تحديدا هو العائق الإشكالي الذي يهدد التكامل بينهما، إذ أن «كل تبسيط للدوغما الدينيّة تتحطم على صخور مسألة الشر في العالم» (ص 61). يرفض هوايتهد أن يكون الشر صادرا عن طبيعة الإله، أو ناتجا عن خطأ أنطولوجي ضد الإرادة الإلهية كما يُعتقد في المسيحية، بل يعتبر الشر متجدرًا وغير مستمر في الآن نفسه في طبيعة الأشياء، وناجمًا عن قدر معين من الانحراف عن الاتساق في العالم الحقيقي، عندما تُنافي الخبرة الذاتيّة للمؤمن أفق الأشياء المثالية التي ينشدها، ومادام هذا التفاوت حاصلا سيظل الشر موجودًا (ص 51).

* * *

أطروحة هوايهد حول تطور الدين، في حقيقتها حُلولية ميتافيزيقة، تضع الدين والعلم في مستوى واحد، وتجعل من الله نظام العالم الذي يحضر في جميع مراحل الخلق، والقوة التي تحفظ توازن العالم وتضمن استمراره وتهب الوجود معناه وقيمته. يحدث ذلك داخل مسار زمني تصبح فيه الأحداث عبارة عن قيم جمالية ذات فاعلية ميتافيزيقية، تحقيقها رهين بالتجاوز الذي ينتصر فيه الخير على الشر، ليس من خلال الفصل بينهما، بل بتحويل الشر إلى الخير في العالم الواقعي كما حددتها طبيعة الله في الرؤية المثالية؛ تلك هي فرادة أطروحة هوايتهد حول تطور الدين إلى العقلانية.

* باحث مغربي، متخصص في الفلسفة الدينيّة وتاريخ الأديان، حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة سيدي محمد بن عبد الله، المغرب.