الفلسفة بصفتها ‘هويّة مُقاوِمَة’؟

حوارٌ في الاختلاف الفلسفيّ الحداثويّ مع طه عبد الرحمن

نجيب جورج عوض*

doi:10.17879/mjiphs-2022-3898

تروم هذه الورقة النظر في أطروحة الفيلسوف طه عبد الرحمن حول تشكيل فلسفة حداثوية عربيّة معاصرة تعلن حق تلك الفلسفة المعرفي الصريح بنمذجَة هوية فلسفيّة عربيّة متخالفة مع الفلسفة الأوروبية ومغايرة لها. سأقدم أولًا عرضًا منهجيًّا توصيفيًّا لأطروحة عبد الرحمن في كتابه الحق العربيّ في الاختلاف الفلسفيّ. من ثم سأقدم تفكيكًا نقديًّا حواريًّا لأطروحته من خلال المحاورة بينها وبين طروحات معرفية مرتبطة بنفس التوجه والهموم المعرفية أجدها في مقاربات فتحي المسكيني الفلسفيّة حول الهوويّة والذات في نصه عن الهوية والحرية: نحو أنوار جديدة، وكذلك مقاربات عزيز العظمة التاريخولوجية المتعلّقة بدراسة الفكر الإسلاميّ كظاهرة تاريخانيّة، خاصة في كتابه الأخير، بزوغ الإسلام في العصر العتيق المتأخر.

كلمات مفتاحية: طه عبد الرحمن؛ الهوية؛ التنوير؛ الاختلاف الفلسفيّ

* أستاذ اللاهوت المسيحي والفكر المسيحي الشرقي بكلية هارتفرد للدراسات الدينيّة وحوار الأديان في الولايات المتحدة الأمريكية.

Philosophy as a ‘resistance identity’

Dialogue on modernist philosophical difference with Taha Abdul Rahman

Najib George Awad*

This study aims to examine the philosopher Taha Abdurrahman’s thesis on the formation of a contemporary Arab modernist philosophy that declares the explicit epistemological right to model an Arab-philosophical identity in contrast with and differentiation from European philosophy. I will first present a systematic and descriptive presentation of Taha Abdurrahman's thesis in his book al-Haq al-arabi fi al-ikhtilaf al-falsafi (The Arab Right to Philosophical Difference). Then I will present a critical and dialogical deconstruction of his thesis through a dialogue between it and epistemological propositions related to the same orientation and epistemological concerns that I find in Fathi al-Miskini’s philosophical approaches to identity and the self in his book al-huwiyah wa-al-huriyah: nahwa anwar jadida (Identity and Freedom: Towards a new enlightenment), as well as Aziz al-Azmeh’s historical approaches related to the study of Islamic thought as a historical phenomenon, especially in his last book The Emergence of Islam in Late Antiquity.

Keywords: Taha Abdurrahman; Identity; Enlightenment; philosophical difference

* Professor of Christian Theology & Eastern Christian Thought at Hartford Seminary, Connecticut.

مقدمة

هل هناك من إمكانيّة لنُشوء حالة حداثويّة وتنويرٍ معرفيٍّ أصيلٍ في الفكر العربيّ المُعاصر؟ ما هي الأدوات والظروف والمشروطات الأساسيّة التي نحتاجها لتحقيق مثل هكذا فعلٍ حداثويّ فكريّ في الفضاء الحياتيّ العربيّ المُعاصر؟ وما هي الآفاق المستقبليّة لمثل هكذا تنوير وحداثويّة؟ وما هي مُمكناته النظريّة والعملانية؟ هل يحتاج العرب لخلق فكر عربيّ حداثوي أن يعتمدوا على التجارب الأوروبيّة الغربيّة الفكريّة وأن يتعلّموا منها عن معنى الفكر الحداثوي وآليات تحقيق التنوير؟ أم أنّهم يستطيعون الخوض في سيرورة حداثويّة عربيّة أدواتها ونفاذاتها ومعانيها وغاياتها ومنهجيتها كلّها مُستقاة من رحم الفكر العربيّ الإسلاميّ المحض وعُدّتهِ المعرفيّة والفكريّة التاريخيّة؟

بزغت تلك الأسئلة والعديد سواها على سطح المشهد الثقافي والمعرفي والأكاديمي العربيّ منذ أواخر القرن الماضي، وقد باتتْ اليوم أسئلة مُهَيمنة على المشهد الفكري العربيّ ومُمـثِّلة لواحدةٍ من أهمِّ وجوهه التي يمرأيها أمام المتابعين والدارسين له ولتطوراته في العالم العربيّ والعالم عمومًا. من المصيب القول أنَّ خطابات التنوير والحداثويّة الأولى التي خرجت علينا من أقلام عربيّة في بدايات الخوض بهذه المسألة قد راحت تفقد بريقها الأول، وبتنا اليوم أمام أصوات عربيّة جديدة تشكك بمقولات تلك الأصوات وتضع فكرة التنوير والحداثويّة تحت مجهر التشكيك وتعرّضها للجدل النقدي والتشكيكي الجديين. إلا أنَّ هذا لا يعني انحسار حضور السؤال حول التنوير والحداثويّة من المشهد الفكري العربيّ. بل على العكس، يدل هذا على ديمومة حضوره ونجاحه بنفض الغبار عن الركود واللامبالاة والتقليل من أهميّة تلك المسألة. فالتشكيك والجدل وحتى الاعتراض يمكنها أيضًا أن تكون وسائل ضمان الديمومة، وليس أسباب للتوقف عن الخوض في المسألة. لا بل يجب أن نشكك بالطروحات المتعلّقة بالسؤال عن التنوير والحداثويّة ونتجادل بشأنها، فهذا فقط ما يدفعنا قدمًا للأمام في مسار خوضنا في أعماقها نحو بلورة أدقّ وأنجع لتحقيق حداثويّة تنويريّة ما.

تُحاول هذه الورقة تقديم قراءة تحليليّة وتفكيكيّة مقارِنَة لاجتهاد أحد الفلاسفة العرب المعاصرين حول مسألة خلق فلسفة عربيّة حديثة. أتعمَّد أن أُضَمِّن عنوان ورقتي مصطلح «حوار» لأنَّني أتفق مع الصوت القائل بأنَّ الحوار هو أصل كلِّ كلامٍ وأنَّ الحوار الأصيل هو الحوار مع آخر. كما أنَّني أتفق أيضًا مع فكرة أنَّ الحوار مع الآخر أساسه التمايز والاختلاف، فبدون اختلاف لا حوار أصلًا. إلَّا أنَّني سأناقش في هذه الورقة قَرن طه عبد الرحمن لفكرة الحوار بين مختلفين بفكرة «التقابل» الذي يفيد التضاد والتعارض والآخريّة التقسيميّة. أريد استخدام أطروحة طه عبد الرحمن عن «الحوار الاختلافي» لأعقدَ في ورقتي حوارًا اختلافيًّا مع مشروع طه عبد الرحمن الفلسفيّ الاختلافي من خلال عرض عناصر أطروحته تحليليًّا ومن ثم استخدام مفهوم طه عبد الرحمن الآخر، «التساؤل المسؤول»، في عمليّة مساءلةِ تساؤلات أطروحته من خلال محاورتها مع طروحات فكريّة وعربيّة أخرى هي طروحات فتحي المسكيني الفلسفيّة وعزيز العظمة التاريخولوجية، قبل أن أنهي حواري هذا بثلاثة نقاط ختاميّة منهجيّة تقييميّة تلخص رأيي الخاص بمقاربات مشروع طه عبد الرحمن وجدواه.

أولًا. طه عبد الرحمن وتحديث الفلسفة العربيّة

من الأكاديميين العرب المهتمين بمسألة الحداثة والتنوير وممكنات تحديث الفكر العربيّ وآليات وماهيات مثل هكذا حداثوية، يبرز اسم الأكاديمي المغربي المختص بالفلسفة، طه عبد الرحمن. سأحاول من خلال هذه الجزء من الدراسة النظر بتمعن في طرح عبد الرحمن الأكمل حول هذه المسألة والذي يقدمه لنا في كتابه الحق العربيّ في الاختلاف الفلسفيّ1.

يؤكد عبد الرحمن، في كتابه المذكور، أنَّ قوام وأساس الفعل الثقافي والتفكُّر الفلسفيّ البشري هو مفهوم «الاختلاف» المفتاحي والمركزي، وحق الجماعات بالاختلاف الفكري والمعرفي عن سواها من الجماعات. ينطلق عبد الرحمن في أطروحته من تعريفه للفلسفة على أنها ليست مجرد ممارسة لفعل التساؤل بل ولممارسة فعل التساؤل حول عمليّة التساؤل بحد ذاتها، أي تعريض عمليّة التفكير بحد ذاتها للتفكير النقديّ والتقييميّ. هذا ما يتحدّث عنه عبد الرحمن تحت مُسمى «السؤال المسؤول» ويعبر عنه بالقول التالي:

«السؤال الفلسفيّ [المسؤول]… ليس سؤالًا فاحصًا لموضوعه، متوسلًا بوضعه كسؤال… ولا سؤالًا ناقدًا لموضوعه، مسلّمًا بوضعه كسؤال… وإنما سؤال يسأل عن وضعه كسؤال بقدر ما يسأل عن موضوعه سؤال يفحص وضعه كما يفحص موضوعه… سؤال ينتقد وضعه كما ينتقد موضوعه»2.

الأصل في الفلسفة، إذا، ليس السؤاليّة بل «المسؤولية»، والفيلسوف الحق هو من يُساءِل نفسه ويسمح للآخرين بمساءلته، أي أنَّه «يمارس النقد على نفسه كما يمارسه على منقوده وعلى وسيلته العقلية». ولهذا فالفيلسوف الحق، بما فيه العربيّ، لا يخوض في أي سؤالٍ خاضَ فيه الآخرون بداعي تقليدهم أو السير في ركب المجموع العام السائد. إنها فلسفة تسأل فقط الأسئلة التي تجعلها سائلةً ومسؤولةً، هدفها «تحرير القول الفلسفيّ العربيّ وفتح آفاق الإبداع فيه»، متمردةً ومتحررةً على حد سواء من الوقوع في فخيِّ وحدانيّة الفكر، من جهة، والركون للأمر الواقع، من جهة أخرى3.

منذ البدايّة إذا، يقدم طه عبد الرحمن لنا خطابًا تمرديًّا يفهم التفلسف على أنه فعل مقاومة للتقليد والشموليّة والسلبيّة والركون للشائع. لبُّ دعوته هو أن يتحول التساؤل المسؤول إلى فعل تحرير يحقق الاختلاف المعرفي والفكري من خلال دعوة الفكر العربيّ للقيام بمقاومة تمرديّة في وجه الهيمنة الفلسفيّة غير العربيّة، أي هيمنة الفلسفة الغربيّة الإغريقية-الأوروبية-اليهوديّة بالتحديد. هذا ما يعبر عنه حين يقول:

«ونحن العرب نريد أن نكون أحرارًا في فلسفتنا وليس من سبيلٍ إلى هذه الحريّة إلا بأن نجتهد في إنشاء فلسفة خاصة بنا تختلف عن فلسفة أولئك الذين يسعون بشتى الدعاوى إلى أن يحولوا بيننا وبين ممارستنا لحريتنا الفكرية»4.

ولكن، كيف السبيل لتحقيق هذا الاختلاف؟ يجيب عبد الرحمن بالقول أنَّ الدخول في علاقات حواريّة مع الآخر المغاير والمضاد هو بدايّة الولوج إلى سبيل خلق فكرٍ مختلف بل ومضاد لفكر الآخرين: «فالاختلاف يوجب الحوار، والحوار إنَّما هو تواصل السؤال… فالحواريّة بين الفلسفات القوميّة المختلفة لا تقل دلالة على التفلسف من الحواريّة داخل الفلسفة القوميّة الواحدة»5. لا يتحدث عبد الرحمن هنا عن الحوار كوسيلة لتعزيز التوافق والمشتركات والتماثلات، بل كفضاءٍ لاكتشاف الاختلاف وترسيخه كقاعدة منهجيّة لخلق هويّة فكريّة قوميّة مختلفة يكمن تميُّـزها في تضادها الاختلافي عن الهويات الأخرى. لهذا نراه يتحدث عن مفهوم «الحوار الاختلافي» مناقشًا أنَّ «الأصل في الحوار هو الاختلاف»، ومؤكدًا «أننا لا ندخل الحوار إلا ونحن مختلفان، بل إننا لا نتحاور إلا ونحن ضدان، لأنَّ الضدين هما المختلفان المتقابلان، والحوار لا يكون إلا بين مختلفين متقابلين»6. لنلاحظ هنا أنَّ الاختلاف يقترن مفاهيميًّا بفكرتين هما «الضديّة» و«التقابل»، واللتان تفيدان منطقي «التضاد» و«التعاكس». مع أنَّ عبد الرحمن يرفض السماح للحوار الاختلافي بالاقتران بالعنف والعداء والفرقة، إلّا أنَّه يعتبر «الحوار الاختلافي» أسمى وأصدق وأكثر أصالة كلاميًّا من «الحوار الاتفاقي»، مُعتبرًا الثاني فرعًا في أصلٍ يُمثِّله الأول ويُهيمن عليه ويُقرِّر مآلاته7. التّنازع هو بنيّة الاختلاف، والتضاد الذي يعلن الاختلاف ويفعلّه هو الوازع الأول والأهم للخوض في الحوار.

على قاعدة اعتبار «الاختلاف» التضاديّ والتنازعيّ غير العنفي والخلافي قاعدة لخلق فكر عربيّ فلسفيّ يعكس الحق بالاختلاف، يناقش عبد الرحمن ضد مفهوم كونيّة الفكر الفلسفيّ وينحو نحو التأكيد على قوميّة (من قوم) الفكر المذكور واعتبار تلك القوميّة أساس هويّة هذا الفكر المُختلفة. ويُبيِّن عبد الرحمن اعتراضه على كونيّة الفكر الفلسفيّ من خلال تأكيده على أنَّ الفلسفة مرتبطة، أولًا، بتنويعات السياقات التاريخيّة والاجتماعيّة؛ وبأنها، ثانيًا، مشروطة محتوًى وشكلًا بالسياق اللغوي الأدبي للفيلسوف؛ وبأنها، ثالثًا، تعكس بطبيعتها أطيافيّة الفكر البشري وتجذّرَه بالهويّة القوميّة الشعوبيّة لصاحب الفكر الفلسفيّ، فالفلاسفة أنفسهم، يقول عبد الرحمن، «يلجأون إلى هذا التقسيم ذي الصبغة القوميّة، مؤثرين نسبة أفكارهم إلى أقوامهم بدل إرسالها من غير نسبة»8. قاعدة رفض عبد الرحمن لكونيّة الفكر الفلسفيّ هي انطلاقه من أنَّ الاختلاف البنيوي الذي يمهوي الثقافات المتعددة هو قاعدة تواصل وتفاعل تلك الثقافات مع بعضها وهو أساس تشكيل الهويّة الفكريّة الفلسفيّة لأمّةٍ ما. هذا ما يعنيه حين يقول «إنَّ مبدأ الاشتراك في الفلسفة لا يلزم عنه بالضرورة وجود جملة من الصفات الفكريّة المحددة التي تشترك فيها كل الفلسفات على نحو واحد»9. من هنا يصبح «القول بالكيانيّة الكونيّة للفلسفة… قولًا باطلًا أو على الأقل مشكوكًا فيه»10. لا يوجد إذًا فلسفة كونيّة بل مُجرد فلسفات قوميّة. وعلى شعبٍ ما، حين يتبنى فلسفة شعبٍ آخر، أن ينتبه لقوميّة ذاك الأخير وأن لا يتجاهل الآثار السلبيّة والمؤذيّة التي تتركها فلسفة مستعارة على الوجود والاختلاف الهووي لقومٍ ما.

هذا التجاهل لقوميّة الفلسفة، برأي طه عبد الرحمن، هو الخطيئة الأصليّة التي وقع فيها العرب في تاريخهم حين احتضنوا الفلسفة اليونانيّة وبعدها الأوروبيّة على أنّها فلسفات كونيّة كليّة تنطبق على كلِّ العُقول11. أخطأ العرب خطئًا مُدمرًا، برأي عبد الرحمن، حين تعاملوا مع مفهوم «الفلسفة الأوروبية» كما لو أنَّ دلالاته مُطلقة، إذ يزعمون أنَّ «أوروبا» هي وحدها التي أبدعتْ الفلسفة وأنَّ غير الأوروبيين لا حظَّ لهم في هذا الإبداع12. لا بل إنَّ العرب وقعوا في ضلالة مبينة حين لم ينتبهوا أنَّ تلك الفلسفة الأوروبيّة قوميّة بامتياز لأنَّها كانت في الحقيقة ألمانيّة صرفة ذات جذور إغريقية. والأنكى والأكثر خطورة من هذا أنَّ العرب، بنظر عبد الرحمن، وضعوا أنفسهم تحت رحمة عدوهم الأول والأكبر، أي الفكر اليهودي، حين لم يُدركوا أنّ الجذور الهوويّة والقوميّة للفلسفة الألمانيّة الممثِّلة للفلسفة الأوروبيّة لم تكن مُجرّد جذورٍ إغريقيّة الماهيّة، بل كانت ومازالت وجهًا صريحًا وفضاءً معبِّرًا بلا مُواربةٍ عن الثّقافة اليهودية. وقد استغلّ اليهود فرصة تحرُّرهم في أوروبا لخلق اختلاف قوميّ يهودي فلسفيّ وسياسيّ وأممي، ولزرعه بشكل عميق في الفلسفة الأوروبية، مُمهِّدين بذلك لنُصرة العمل السياسيّ الصهيوني، الذي نُقلَ من خلال أفكار وآراء فلسفيّة صِرفة إلى الفكر الفلسفيّ الحديث والهيمنة عليه كُليًّا13.

ما هو الاختلاف الفلسفيّ إذا؟ إنه دعوة عبد الرحمن العرب لخلق هويّة فلسفيّة مُضادة للهويّة الفلسفيّة الأوروبيّة المتأغرقة والمتهودة، تتحاور معها لتُنازعها وتُناهضها وتتحرّر معرفيًّا منها، لا بل تُقاومها كتهديدٍ وكندٍّ. من هنا، ولتحقيق هذا، يطبق عبد الرحمن مبدأ التساؤل المسؤول على الفكر العربيّ نفسه، مقدمًا نفسه كفيلسوف عربيّ يُعرِّض الفكر العربيّ ذاته للنقد والتفكيك بغرض إعادة خلقه هوويًّا بشكل لا يعلن فقط اختلافه بل ويفرضه كماهيّة ناظمة ومُعرِّفة بشكل مطلق. يقول عبد الرحمن:

«إنَّ من يُجرد النظر فيما يوضع من مؤلفات فكريّة وما ينُجَز من أبحاث فلسفيّة في البلاد العربيّة في الوقت الراهن يجد أنَّ هذا الانتاج يدور كله على نفس الاشكالات والاستدلالات ونفس المسلمات والنظريات التي يتضمنها الفضاء الفلسفيّ العالمي المزعوم… يلزم من هذا أنَّ الإنسان العربيّ، في نهايّة المطاف، يتفلسف بما يخدم عدوه وهو لا يدري، أليس هذا الفضاء الذي يستمد منه أفكاره وآراءه هو من صنع عدوه المنتشر سلطانه في الأرض؟ وإذا كان الأمر كذلك، ألا يمارس المتفلسف العربيّ التطبيع من حيث لا يفقه/ بل -أدهى من ذلك- من حيث يريد أن يقاوم هذا التطبيع؟ وهل التطبيع إلا أن تفكر بما يريد عدوك، عَلِمتَ بذلك أم لم تعلم؟»14.

ما هو حق الاختلاف الفلسفيّ؟ إنَّه، برأي عبد الرحمن، فعلُ تخالُفٍ وتضادٍ وتنارعٍ فكريٍّ مع فكر مُضاد بعينه، وتحررٍ منه من خلال خلق هويّة فلسفيّة معاكسة له ومتخالفة معه، ألا وهو الفكر الفلسفيّ القوميّ إغريقي-أوروبي-يهودي. أما البديل الهووي الذي سيحل محل الفكر المضاد ويخلق فلسفة عربيّة مختلفة فهو عند عبد الرحمن ليس فكرًا متحررًا من القوميّة، بل قكرٌ مناهضٌ للكونية، أي أنه فكر قوميّ بديل لا يقل قومويّة عن الفكر الذي ينازعه، لا بل هو فكر يبذّ الأخير قومويّة بحيث أنه فكر مبني على ما يسميه عبد الرحمن «القوميّة الحية» والتي تتصف بثالوث «القيام-القوام-القَومَة»15. ستحقق تلك القوميّة العربيّة مشروعها الفلسفيّ الهووي المختلف من خلال خطة عمل تقوم على «مقاومة الفلسفة الأوروبية-الإغريقية-اليهودية» أولًا، من ثم «تقويم» الفكر العربيّ بذاته بتخليصه من كل شوائب ومؤثرات الفلسفة الغربيّة، ومن ثم، ختامًا، «إقامة» الفكر الفلسفيّ العربيّ المختلف المتكامل الهويّة والكيان16. يستنتج عبد الرحمن أنَّه لا مناص للفيلسوف العربيّ، في خضم مواجهته للتهويد الجاري للفلسفة، سوى خلق هويّة عربيّة فلسفيّة قومويّة حيّة، قوامها الجهاد والمقاومة كفعليّ اجتهاد وقيام على التوالي17. هذا فقط ما يحرر الفلسفة العربيّة من آفة التغريق القديمة وآفة التهويد المعاصرة، ومعهما سيتم القضاء أيضًا على آفة «التغريب»18.

لا يكتفي طه عبد الرحمن بالتبشير باختلاف قوميّ فلسفيّ مقاوِم للفكر المتهوِّد الأوروبي، بل إنه يدعو إلى السماح لهذا الاختلاف الفكري على المستويين الإبستمولوجي والأنطولوجي بفعل تغيير اختلافي عميق في البنيّة السوسيولوجيّة والأنثربولوجيّة للشارع العربيّ. إذا كانت الفلسفة هي فعل هووي قوميّ مهمته مقاومة العدو الصهيوني فكريًّا، فإنَّ الهُويّة القوميّة الناتجة عن الفلسفة الجديدة يجب أن تعيد تشكيل المجتمعات العربيّة صاحبة تلك الفلسفة وتعيد تعريف العرب كذوات وكأشخاص بدلالة جهادهم الفلسفيّ ضد العدو الصهيوني. هذا ما يعبر عنه طه عبد الرحمن كقناعة حين يقول:

«إنَّ مواقف العرب من العدو الصهيوني تجعلهم طبقات أربع، طبقة الناس وتتكون من أهل التطبيع، وطبقة الرجال وتتكون من أهل المقاطعة، وطبقة ذوي المروءة تتكون من أهل الرفض، وأخيرًا طبقة الفتيان وتتكون من أهل الانتفاضة»19.

وبمنطقٍ صادمٍ يُذكِّرنا بالخطاب التصنيفي -بل والعنصري- النازي-الآري في الثلث الأول من القرن العشرين، يتابع طه عبد الرحمن استطراده بوضع ترتيب قيمي تراتبي وتمييزي بين تلك الشرائح المجتمعيّة الأربعة المذكورة في الأعلى، مؤكدًا أنَّ ما يحدد هويّة الأفراد وعربيّتها واختلافها هو ماهيّة المرتبة البشريّة التي ينتمون إليها: كذا يعبّر عبد الرحمن عن هذا المنطق التصنيفي المقلق والصادم:

«إنَّ الأسبقيّة في العلاقة بين الهويّة والطبقة لا تعود إلى الهويّة وإنما إلى الطبقة، فليست الهويّة هي التي تُحدّد الطبقة وإنما الطبقة هي التي تحدد الهوية، فالهويّة العربيّة ليست هي التي تقرر ما إذا كان الفرد أو ذاك مطبِّعًا أو مقاطعًا أو رافضًا أو منتفضًا، وإنَّما المطبِّع أو المقاطِع أو الرافِض أو المنتفِض هو الذي يقرر ما هي الهويّة العربيّة»20.

أمّا أسمى مراتب التمثيل بتلك الهويّة المختلفة فهي مرتبة أولئك الفتيان المنتفضين اللذين يقفون على درجة أعلى إنسانيًّا وأخلاقيًّا من باقي البشر في المجتمع العربيّ: هم العرب، إن لم يكن البشر الحقيقيون لأنَّهم يتّصفون بالالتزام الأخلاقيّ الدينيّ، ولأنّهم يتّسمون بالرجولة الغنيّة المقَاوِمَة. هؤلاء هم العرب الحقيقيون فقط، برأي عبد الرحمن، لأنَّ الفتوّة، كما يقول بكلماته: «تفضلُ الإنسانيّة لكمال التديُّن فيها وكمال التديُّن ينفع في تزكيّة الهويّة البشريّة كما أن تفضلُ الرجولة لكمال القوة فيها… فلا أزكى ولا أرسَخ ولا أوسَع من الهويّة التي تكون من صنع الفتوة»21. لا يحتاج المرء لكثيرٍ من الجهد الفكري ليرى أن مثل هذا التفريق التصنيفي لا يعتبر المرأة ولا اللادينيّين، على سبيل المثال لا الحصر، جزءًا من الهويّة العربيّة المختلفة الأصيلة، بل هم ناقصو كمالٍ وحاملو أنصاف هويَّات، حتى ولو كانوا مناهضين ومُنتفضين ضد التهويد والأوربة والأغرقة.

المهم في خلاصة الأمر أنَّ طه عبد الرحمن يجتهد فكريًّا لتقديم مشروع إعادة خلق فكر فلسفيّ عربيّ جديد لا يمثل فقط مجرد اجتهاد فكري عقلاني مختلف، بل ويتحول إلى أداة قاعديّة في عمليّة خلق ذات بشريّة جديدة عربيّة مختلفة. أما بنيّة هذ المشروع المنهجيّة فهي تركيب الفلسفة المنشودة على مفهوم «الاختلاف» وفهم الاختلاف على أنه فعل تضاد وتنازع وتقابل تعاكسي مقاوم، هدفه تعريب ما تم تهويده وتعريب ما تم تغريبه وأغرقته.

ثانيًّا. عن مفهوم الهويّة و مفهوم الاختلاف

تُبيّن القراءة المتأنيّة للافتراضات الفلسفيّة والمفاهيميّة المشكلة لأرضيّة طرح عبد الرحمن بأنَّه يستعير نقاشًا إبستمولوجيًّا فكَّكه يورغن هابرماس في سبعينيات القرن الماضي. ففي معرض تطويره لنظريّة فعل التواصل البيـ-ذاتيّ Intersubjective Communicative Action، يتحدث هابرماس عن ميل فلسفيّ ساد في القرن العشرين يرى التواصل بين ذوات مختلفة كتعبير عن حالة تنافس بين الأنا وذات أخرى مقابلة تعتبرها الأنا خصمًا وتسعى للتأثير الفوقي عليها أو مقاومتها على قاعدة منطق الثواب والعقاب. ضمن هذاالإطار المفاهيمي، يغدو الميل التحليليّ الاستراتيجي الأنسب هو ذاك النفاذ المعرفي الذي يركز على الجانب النووي Atomic وليس الكلّي Holistic أو الكوني Universal من أبعاد وعي الذات ووعي الآخر والعلاقة البيـ-ذاتيّة بينهما22. يفكك هابرماس بدوره الفهم المذكور للتواصل بصفته: مساحةُ أو لحظةُ أو فضاءُ تنازعٍ وتضادٍ تنافسي؛ مؤكدًا، خلافًا لذلك، على أنَّ التواصل البي-ذاتيّ الفاعل هو ذاك الذي يجعلني أعامل عقل الآخر على أنه عقلٌ مساوٍ تمامًا لعقلي وأنَّ كليهما ينتمي لنفس الواقع البشري الذي تنتمي له ذواتنا23.

في خضم اطلاعي على الاجتهادات الفكريّة العربيّة المعاصرة، وجدت في ما قرأت مؤخرًا أكاديمي عربيّ يسير برأيي في رُكب فلسفة هابرماس ويقدم طرحًا للعلاقة مع الحداثة والتحديث من خلال مقاربة مفاهيم الهويّة والاختلاف الذاتوي ويمثّل طرحه بتقديري تفنيدًا فلسفيًّا يستحق الانتباه لما قدَّمه عبد الرحمن. من أعنيه هنا هو أستاذ الفلسفة المعاصرة، الأكاديمي التونسي فتحي المسكيني.

في عام 2011، نشر المسكيني كتابًا يلامس مسائل الهويّة والاختلاف عنوانه الهويّة والحرية: نحو أنوار جديدة. يخبرنا الكتاب بدءًا من عُنوانه وبلا مواربة أنَّ مؤلفه يهجس كطه عبد الرحمن بمسألة التجديد والحداثة الفكريّة وآفاقها في العالم العربيّ. وهو ينحو كعبد الرحمن نحو مقاربة المسألة من نفاذ فلسفيّ تحديدًا ويسعى لتركيب هرمنيوطيقا إبستمولوجيّة اصطلاحيّة لتلك المسألة مقاربًا إيّاها من زاويّة الهويّة والتهوّي بشكل خاص.

ينطلق المسكيني من تعريف الفلسفة بأنها «فن البحث عما سماه نيتشه...أنوار جديدة»، مؤكدًا أنَّ «جديدة» هنا تعني «أخرى»، أي تعني اختلاف24. إلا أنَّ المسكيني يختلف عن عبد الرحمن في آليات فهمه وتفسيره لكلمة «أخرى» أو «آخرية»، فهو يبدو بأنه ينحو نحو تفسيرها على أنها تفيد المشاركة بين أكثر من آخر ولا تفيد بالضرورة الاختلاف والتضاد بينهم. لهذا نراه يقول:

«الفلسفة هي فن البحث عن «أنوار أخرى» وهي «أخرى» من قبل أنها «آخرية» بامتياز، إذ هي تستمد شرائط إمكانها من تواشجٍ فذّ وعميقٍ بين احتمال الحريّة معًا في عقولنا والتزام عميق بالمشترك في غيريتنا. هي «أنوار أخرى» لأنَّ الفلسفة لا يمكن أن تكون إلا حرّة ومشتركة بين أصدقاء الحقيقة»25.

لنلاحظ هنا تشديد المسكيني على مفردات «معًا» و «مشترك»، ولنلاحظ أنه لا يفهم فكرة الحريّة بمعنى التحرر من التماثل والمشاركة والارتماء في أحضان الاختلاف المؤدي للتضاد والتنازع، كما يفعل عبد الرحمن. خلافًا لذلك وعوضًا عن «تحرُّرٍ اختلافي»، يتحدث المسكيني عن «الحريّة في التشارك»، مُؤكدًا أنَّ الحريّة ستصبح قيمة شديدة الخطورة إذا لم «تتحول إلى فن للمشترك وإنَّ الفلسفة هي فن البحث عن المشترك بين العقول الحرة»26. وحين تسأل المسكيني، كيف يمكن تحويل الفلسفة إلى مثل هذا النوع من الحريّة التشاركيّة والبحث «معًا» مع الآخر؟ يجيب قائلًا أنَّ هذا يتحقق من خلال تحسُّس الذات البشريّة في ذاتها المشتركة بين الناس وكما تقول نفسها في بعدها البشري الكوني بعيدًا عن التنزيل والشموليّة والفوقيات27. يبدو المسكيني في مقاربته هذه كمن يتبع في فهمه للذات منطقًا كلّانيًّا لاشموليًا، خلافًا لمنطق عبد الرحمن النووي التضادي والآخري. إلا أنَّ المسكيني يماثل عبد الرحمن في اعتقاده بأنَّ الوصول إلى فلسفة عربيّة حداثويّة جديدة يجب أن يقترن، إن لم يكن مشروطًا، بثـقافة الحرية. كلا الفيلسوفان يدعو لتحرُّر من شيءٍ ما ولحريّة في فضاء ما. الحريّة المشتكرة بينهما هي فهمهما للفلسفة كفضاء لتحقيق وعيش الحرية. إلا أنَّ الاختلاف بينهما يكمن في أمرين بنيويين: أولهما، أنَّ المسكيني يفهم الحريّة كفعل تشارُكٍ، أما عبد الرحمن فيفهمها كفعل تحرُّر اختلافي. وثانيهما، أنَّ ما يدعو عبد الرحمن للتحرُّر نحو تحقيقه ولأجل الوصول إليه، يدعو المسكيني للحريّة منه والخروج عنه. رأينا عبد الرحمن يدعو لتشكيل هويّة عربيّة فلسفيّة ذات ماهويّة قوميّة، في حين، يُناهض المسكيني هذا الطرح داعيًا إلى خلق ذات فلسفيّة تنشد الحريّة لا من الماهيّة القوميّة فقط بل ومن العقل الهووي المتمحور حول فهم ضيق ونووي للهوية.

الفلسفة هي «نقد حيوي للعقل الهووي»، يقول المسكيني28. من ثم يجادل بأنَّ العرب اليوم مهووسون بفكرة التحرُّر، لا بل ومنهمكون بالتفكير بالتحرر الهووي. إلا أنهم لم يحققوا فيه شيئًا لأنَّهم اختاروا أن يحاربوا الفكر الحداثوي الخالق للعقل الهووي بأدوات معرفيّة وتفكيكيّة حداثويّة بامتياز قاموا باستعارتها من نفس فضاءات المنطق الناظمة للعقل الذي أرادوا التحرر منه في الدرجة الأولى29. ما يفعله الفلاسفة العرب اليوم، يقترح المسكيني، هو أنهم يهربون من كل أبويّة يعتقدونها مضادة ومنافِسة وتهديديّة لاختلافهم ليقعوا في أحضان علاقة أموميّة جديدة30 مع ذهنيّة انغلاقيّة دفاعيّة تفهم الاختلاف على أنه تضاد وترسيخ لغيريّة الذات. يمثل هذا، برأي المسكيني، محاربة لعقل حداثوي بأدوات لا تقل حداثويّة، وعمليّة تبديل لعقل هووي غربي خارجيّ بعقلٍ عربيّ مُعاكس لا يقل هوويّة وعلويّة وتقييدًا للحريّة عن العقل الهوويّ الذي يُقاومه. ليس صعبًا على القارئ المتأني أن يرى هنا نقدًا مضمرًا لمحاولة عبد الرحمن مناهضة الفلسفة الأوروبية-الإغريقية-اليهوديّة بفلسفة مضادة معاكسة ذات هويّة عربيّة لا تختلف في بنيتها الماهويّة ومنطق خلقها عن البنيّة والمنطق الحداثوي الغربي الذي خلق العقل الهووي لمن يريد عبد الرحمن الاختلاف عنه. وكأن المسكيني هنا ينبهنا إلى خطورة الخطاب المغلق الدائري Circular Argument، مؤكدًا أنَّ «كل خطاب مغلق هو خطاب هووي»31.

يقترح المسكيني للخروج من هذا المأزق أن لا نركّز على «الاختلاف» لأنَّه يفيد معنى الغيريّة Othering/Alterity والانتقال من هذا المفهوم إلى مفهوم «المغايرة» Differentiation أو Distinction. يفضّل المسكيني المغايرة على الغيريّة بمعنى الاختلاف التضادي لأنَّ الغيريّة برأيه ما تزال «تقع في خانة التقابل بين الأنا والآخر.هي ضد العينيّة التي يتطابق من خلالها شيء ما مع نفسه»، في حين أنَّ «المغايرة هي نمط موجب من الولادة خارج ذواتنا القديمة… حريّة أن نكون محدثين على طريقتنا»32. المغايرة وليس الاختلاف هي السبيل إلى حريّة الذات وتجديد العقل لأنها «لا تفكر في أفق المتعالي»، أي لا تفكر، إن شئتم، في أفقٍ نرجسي متمحور حول آخريّة الذات وفهم تلك الآخريّة بشكل عنصري يقوم على افتراض أنَّ الذات هي أخرى لأنها تتضاد مع أي ذاتٍ أخرى وتعاكسها ماهويًّا وتقاومها وتجاهد وتنازع ضدها كي تحقق هويتها الأعلى. يقول المسكيني أنَّ منطق المغايرة يعني فهمنا لتفردنا الذاتيّ -وليس لاختلافنا المضاد- من خلال العلاقة مع نفسٍ «شُفيَتْ من مرض المتعالي»33. المغايرة تجعل تمايزنا علاقة تفريق-ذاتوي Self-differentiation وليس علاقة افتراق-مع-آخر Other-differentiation. لهذا، لا يجب أن تشير المغايرة إلى «ماهية» أو «بنيّة متعاليّة في وعينا»، فالمغاير«هو ما يقف على حدود أنفسنا الرسميّة ويستفز فينا ’خارجيّة’ علينا أن نؤرخ لها دون أي ادعاء ماهويّ حولها»34.

يختلف فتحي المسكيني في هذا الطرح عن طه عبد الرحمن في ما يتعلّق بفهم ماهيّة العلاقة مع الآخر ومنطلقاتها. يريد عبد الرحمن ترسيخ الاختلاف من خلال منطق هُووي مضاد ومقابلة تعكس مقاومة لما يعتبره هويّة غيريّة لآخر يسعى للهيمنة عليه. وبالتالي تصبح الهويّة الفلسفيّة الاختلافيّة عند عبد الرحمن هي أداة الهجوم المضاد والانتقام المعرفي من آخرٍ مستعمِر ومتآمِر على العربيّ. ضد هذا المنطق، يستبدل المسكيني لعبة اللغة المتمركزة في فكرة «الاختلاف» بلعبة لغة قوامها فكرة «المغايرة» لأنه يرى أنَّ المغايرة «ليست سلبًا ولا تسعى لأي ثأر وهي تنأى بنفسها عن صراعات الاعتراف»35. من هنا يخلص المسكيني إلى أنَّ ما نحتاج لخلقه كجديد أو كآخر فلسفيًّا هو «حداثة مُغايرة» قوامها «تشكيل ذاتيّات جديدة بلا هوية»؛ مغايرة لا تشكل انتماء ولا تضييق ولا تأطير ولا حتى «بديل مقابل»، بل هي إقامة حرّة ومنفتحة وديناميكيّة «داخل أشكال الحياة بلا هوية»36. ما لم نفعل ذلك، سنسقط في فخ الهروب من هويّة ما إلى أحضان هويّة مقابلة لا تقل أسرًا وتحديدًا وتحجيمًا وأبويّة عن ما هربنا منه وقاومناه وثُرنا عليه.

لا يخفى هنا على الباحث النقد التلميحي الذي يقدمه المسكيني ضد استخدام عبد الرحمن لفكرة «المقاومة» كعِماد التضاد التنازعي بين الفلسفة العربيّة المنشودة والفلسفة الغربيّة المتهوِّدة. لا يصعب سبر هذا النقد لطرح عبد الرحمن في قول المسكيني: «علينا أن نحترس هنا من التوثين الذي تتعرض له فكرة «المقاومة» ومن تحويلها إلى العنوان الأخير للحرية»37. كيف نتحرر من هذا التوثين الاختلافي؟ بأن ننشد بدلًا عنه منطق المغايرة، لأنَّ هذه الأخيرة، يقول المسيكني، «هي فن الحريّة الوحيد المتبقي لمن يريد تطوير شكلٍ ذاتيٍّ بلا هوية»38. لا يتوجب على الفلاسفة الحداثيين الجدد أن يكونوا اختلافيين هوويين مقاومين قوميّين كما يدعو عبد الرحمن، بل يجب أن يكونوا مغايرين، أي أولئك الذين «لا يتكلمون لغة كبرى لأنفسهم»، يقول المسكيني، والذين «يتكونون في كل مكان وهم ينتجون المكان مابعد الحديث في كل مكان»، وهم أولئك الذين «يشكلون عائلة غير رسميّة ولا هوويّة تضم جملة الخارجين عن برنامج الإنسان الأخلاقي [الذي يمثل] حيوانًا هوويًا»39.

في الوقت الذي يدعو فيه عبد الرحمن إلى هويّة اختلافيّة مقاوِمَة كأداة للتحرُّر من الآخر الخارجي والنكوص نحو انتماء قومويّ لحلقة الفكر الذاتيّ الشموليّ المغلق، فإنّ المسكيني يفترق عن هذه الأطروحة ويدعو لذات مغايرة متفاعلة بحريّة وتشاركيّة مع الآخر ومُتحرِّرة كليًّا من الحلقة الداخليّة الضيقة لإرثها الهووي، وهي ذات تعود لموطنها وهمّها العربيّ «بشكل مابعد هووي ومابعد تاريخيّ، أي كتعدد أو تكثُّر ذاتيّ خصب في صلبه»40. إنَّني أجد في دعوة المسكيني مشروعًا أكثر نجاحًا وتماسكًا من مشروع عبد الرحمن لأنَّ الأخير يفشل في الخروج من دائرة لعبة الهيمنة والتضاد والوصايّة التي يثور مبدئيًّا عليها ويدعو العرب لممارسة حقهم بالاختلاف عنها ومعها. إنَّ خلق فلسفة عربيّة قومويّة هوويّة الطبيعة لتناهض وتعاكس الفلسفة الأوروبية-الإغريقية-اليهوديّة هو بحد ذاته فعل غير فلسفيّ بطبيعته، إذ الفلسفة، كما يعترف عبد الرحمن شخصيًا، هي فعل تواصليّ، بل إنَّ عبد الرحمن يصفها بالفعل الحواري. لكن افتراض التعاكس والتضاد ينقل الفعل التفكيري من مُستوى الفلسفة إلى مستوى السياسة والأدلجة ويبدل فعل الحوار بفعل جدالٍ ودفاعيّات Polemics. ناهيك عن أنَّ استبدال هويّة فلسفيّة بأخرى مُعادِلَـة لها في القوة وناتجة عن المنطلقات المعرفيّة والمفاهيميّة الافتراضيّة نفسها لا يحقق حريّة ولا حتى تحرُّرًا. المشاركة فقط ماوراء حدود الهويات المُتضادّة والمتنازعة هي فعل الحريّة الفكري الحقيقي دون سواه.

ثالثًا. في العلاقة الفكريّة مع الآخر تاريخولوجيًّا

في القسم السابق، استعنت بأطروحة فتحي المسيكني لتقديم تفكيك نقدي لأطروحة طه عبد الرحمن على المستوى التحليليّ الفلسفيّ والمفاهيمي. في هذا القسم، أود أن أتحاور نقديًّا مع أطروحة عبد الرحمن على مستوى تحليليّ تاريخولوجيّ Historiological.

في فهمه لطبيعة التفاعل بين الفكر العربيّ والفكر الأوروبي-الإغريقي-اليهودي، يرسِّخ عبد الرحمن قراءة تاريخولوجيّة تفترض أنَّ هذين الفكرين وُجِدا وانتميَا لحالة وجود افتراقيّة Separational انفصاليّة Schismatic وضعتهما في حالة تقابل وتوازي وجعلت تفاعل إحداهما مع الأخرى تماسّيًّا فقط Tangential قوامه النقل والتوصيل وليس الانخراط والتأثير؛ الترجمة وليس التفسير؛ التكرار الميكانيكيّ وليس إعادة التوليف الاجتهاديّ.

نلمس هذا في حديث عبد الرحمن عن الفكر العربيّ وكأنّه فكر قائم بذاته ماهويًّا ووجوديًّا يختلف بشكل متضاد اختلافي، بل وتنازعي لا مع الفلسفة الأوروبيّة المعاصرة فقط، بل ومع أحد أهم منابعها ورحم منشأها التاريخيّ، الفلسفة اليونانيّة. تصبح هنا العلاقة بين «الأفلاطونية» و«الأرسطية»، من جهة، و«الغزالية» و«الرشديّة»، من جهة أخرى، علاقة اختلاف صارم وراديكالي، يعبِّر عن اختصاصات فلسفيّة تباعديّة وتخالفية41. وكأنَّ مثل تلك الفلسفات نشأت ونمت وتطورت في توازٍ وتماسٍ تقابلي وليس تواؤم وتفاعل تبادلي بين بعضها البعض. بناءً على هذا المخيال التاريخانيّ، يلوم عبد الرحمن الأقدمين، خاصة من قرؤوا الفلسفة اليونانيّة منذ القرن 9م/ 3هـ، لمقاربتهم الفلسفة اليونانيّة وكأنَّها معرفة استدلاليّة كونيّة لاقوميّة42. ولهذا يقترح عبد الرحمن بأنَّ الفلاسفة العرب، أمثال ابن رشد، قاموا بالاكتفاء بنقل الفلسفة اليونانيّة المترجمة للعربيّة بشكل ميكانيكي حيادي؛ أي أنَّهم ردوا بضاعة الأوروبيين لهم «غير محوَّلة ولا مُحرَّفة» وبالاستعانة بجهود النَقَلَة الذين لم يفعلوا شيئًا سوى تأمين جسر عبور للفلسفة اليونانيّة من فضاء العهد العتيق إلى فضاء العهد القروسطي، لا أكثر ولا أقل، كما يعتقد عبد الرحمن43.

ما يدعو للتوقف عند هذا المخيال التاريخولوجي لعلاقة الفكر العربيّ الإسلاميّ بالفكر اليونانيّ هو الافتراض بأنَّ هذين الفكرين يؤلفان دوائر إرثيّة معرفيّة وحضاريّة مغلقة ومكتفيّة بذاتها وتتموضع على التوازي مع بعضها البعض، وأيُّ تواصلٍ بينها لا يتجاوز التماس والنقل الترجمي دون التفاعل والتأثر والتأثير المتبادلين ودون أيّ تورطٍ في إعادة صياغة. ما هذا إلا قراءة كلاسيكيّة تاريخولوجيّة لعلاقة الحضارة الإسلاميّة، أو للإسلام كمنظومة معرفية، بالحضارات المعرِّفة لما ندعوه بالعصر العتيق المتأخر Late Antiquity. تفيد القراءة التاريخولوجيّة المذكورة بأنَّ الإسلام يمثل ظاهرة حضارية-دينيّة طرأت على المشهد الحضاري التاريخيّ للعصر العتيق المتأخر من خارجه وعملتْ على الحلول محلّه واستبداله بها من خلال انتصارها عليه حربيًّا وتنازعيًّا ومن ثم الاستيلاء على المشهد منه وإعادة خلق هذا المشهد من الصفر على قواعد وأسس معاكسة ومضادة للمشهد الثقافي والحضاري ماقبل الإسلام.

واحد من الأكاديميين العرب الذين يفندون ويدحضون تلك القراءة الكلاسيكيّة اليوم، أستاذ تاريخ الإسلام، السوري الأصل، عزيز العظمة. من آخر ما انتجه هذا الباحث الأكاديمي كتاب نشره عام 2014 بعنوان بزوغ الإسلام في العصر العتيق المتأخر The Emergence of Islam in Late Antiquity. يُناقش العظمة في كتابه هذا ضد الأطروحة التي تنطلق في فهمها للإسلام من مبدأ القطيعة الماهويّة بينه وبين ما سبقه من حضارات وثقافات وأديان مشرقيّة تُعرِّف العصر العتيق المتأخر، والتي تستخدم مبدأ القطيعة المفترضة قبليًّا كدليل هرمنيوتيقي على تفرُّد -بمعنى انفراد- الدين الإسلاميّ وخارجيته التفوقية. يؤكد العظمة خلافًا لهذا الطرح بأنَّه لا يجب علينا مقاربة ما ندعوه الحضارة الإسلاميّة إلا بصفتها حضارة إقليميّة تنتمي لسياق غرب آسيا الأوسع وبكونها أحد عناصر هذا السياق الحضاريّة البنيوية. يتابع العظمة مؤكدًا أنَّ تلك الحضارة ليست الخلاصة النهائيّة التي ختمت زمن العهد العتيق المتأخر، بل إنها البلوَرَة والذروة الناجحة التي توّجت العهد العتيق وكللت سيرورته بالنجاح، لأنَّ من هيَّأ الأرض بل وساهم في تقديم الظروف المطلوبة لبزوغ الحضارة الإسلاميّة وبلورتها كفعل تتويجي للعهد العتيق ما هي إلا الحضارات اللا-إسلاميّة التي تنتمي للعهد العتيق وتُعرِّفه44.

يؤكد عزيز العظمة أنَّ الإسلام «جزء لا يتجزأ من العهد العتيق المتأخر»45. إنه المنتوج النهائي لاحتضان الفكر الرومانيّ-المشرقيّ في العهد العتيق وتقديمه للشرق، وهو نقطة التطور الرئيسيّة العظمى للسيرورة الحضارية لذاك العهد، التي وجد الإسلام في رحمها ممكنات وظروف إمكانيّة وجوده وتكوُّنه الحضاري46. إنَّ هذا الانتباه التاريخولوجي للعلاقة التكافليّة الداخليّة بين الفكر الإسلاميّ والفكر اليونانيّ-الرومانيّ لفضاء تواجد وحضور الإسلام العتيق المتأخر لا يعيد فقط قراءة العلاقة بين الإسلام وغير الإسلام، بل ويعيد قراءة العلاقة بين الشرق والغرب47، بحيث تصبح تلك المرحلة هي مرحلة تواصل تكميلي تفاعلي بين متمايزين أو مغايرين -إذا ما استخدمنا مفردات المسكيني- Continuum of Discontinuity 48. ما يؤكد هذا تاريخيًّا هو ملاحظتنا حين نقرأ تاريخ العهد العتيق المتأخر بأنه لم يوجد يومًا حضارة إغريقيّة أو رومانيّة نقية، «غير ملوثة»49. وبالمنطق نفسه، لا يوجد تاريخيًّا فكر عربيّ-إسلاميّ نقي، ولكن لم يوجد أيضًا، ولا يمكن أن يوجد، فكر أوروبي نقي. لهذا فإنَّ كشف الغطاء عن تفاعليّة وديناميكيّة فلسفة ما لا يجعل من لا-نقاءها أو من تلوُّثها تُهمة أو مصدرًا للتشكيك أو للتّبخيس أو للاتهام بالتبعيّة. لا شيء يعيب الفلسفة والحضارة العربيّة-الإسلاميّة في اعتبارها، كما يقول عزيز العظمة، «التحقيق المكتمل الكلي» Consummation للعهد العتيق المتأخر وكذلك «الخلاصة العظمى لعمليّة النضوج والاكتمال الهيلليني»50.

يستنتج العظمة من هذا أنه لا ينبغي علينا أن نقرأ الإسلام تاريخولوجيًّا «كتطفُّل أو اختراق» Intrusion بل كفعل متجذِّر بعمق في العهد العتيق المتأخر وكتحقيق مكتمل كلي لها51. هذا ما نشهده، مثلًا، كما يؤكد العظمة، في لحظنا أنَّ الإمبراطوريات العربيّة المسلمة لم تقطع مع الإمبراطوريّة الرومانيّة البيزنطيّة أو الساسانيّة، بل استمرت مثلها وأكملت رؤيتها العالميّة التوحيديّة الدينيّة وكذلك الكثير من رؤى ومفاهيم تلك الإمبراطوريات الثقافيّة52. يعني هذا أنّه بالإمكان قراءة العهد العتيق المتأخر وسيرورة المسيحيّة واليهوديّة فيه لا في تقابل مقارني بدائلي وتعاكسي مع آخرٍ مفارق مضاد هو الإسلام، ولكن من زاوية، ومن خلال نافذة، الإسلام عينه، مثلما نقرأ الفكر الإسلاميّ من خلال نفاذي ونافذتي المسيحيّة واليهودية، انطلاقًا من اعتبار الثلاثة عناصر متكاملة ومؤلـِّفَة معًا لفضاء حضاري تاريخيّ إنسانيّ أوسع وأشمل53. يقترح العظمة بناءً على هذا الطرح أن نتأنى قبل الحديث عن «التاريخ الإسلاميّ» أو «تاريخ الفكر الإسلاميّ» وكأنه حالة موضوعيّة وضعيّة قاءمة بذاتها ومكتفيّة بماهيّة مخالفة. يجب الحديث عن تاريخ العهد العتيق المتأخر في أطيافه ووجوهه المتعددة ومنها الوجه الإسلاميّ: الإسلام فصلٌ من فصول قصة العهد العتيق المتأخر التاريخيّة والتحقيق المكتمل الكلي لسيرورة هذا التاريخ الحضارية54.

أجد في أطروحة عزيز العظمة المنهجيّة الكثير من المنطقيّة والمعقوليّة لأنها تنجح برأيي بتقديم هرمنيوتيقا من داخل إرهاصات الحراك التاريخيّ الفلسفيّ العربيّ وتنأى عن مقاربة هذا التاريخ بنظرة علويّة فوقيّة استقرائيّة تفرض على هذا الحراك خلاصات مُسبقة الصنع. من جهة أخرى، تفيدني دراستي لتاريخ الفكر الفلسفيّ واللاهوتي العربيّ في العصر الإسلاميّ المبكر بأنَّ الفلاسفة العرب في القرن 9م/ 3ه لم يقوموا بمجرد ترجمة أرسطو وأفلاطون للعربيّة، ومن ثم نقل ما ترجموه بحياديّة مطلقة وتعفُّف فكري إلى أوروبا القرون الوسطى. خلافًا لذلك، انخرط الفلاسفة العرب كليًّا في عمليّة إعادة سرد هذا الفكر من خلال تمريره عبر قنوات فهمهم وتفسيرهم الوجودي والاختباري الذاتوي لسياقهم التاريخيّ الوجودي الخاص. لهذا، مثلًا، يتحول أرسطو وأفلاطون المختلفان فكريًّا وفلسفيًّا في فضاءهما الفكري الإغريقي إلى صوتان لخطاب واحد يردد نفس الفكر ويفهم العالم لاهوتيًّا (مع أنَّ أرسطو ليس لاهوتي) ويؤكد بشكل متطابق حرفيًّا على توحيديّة الحقيقة. لقد بلغت مطابقة أرسطو وأفلاطون وتوحيدهما عند الفارابي درجة جعلته يكتب كتابًا عنوانه، كتاب الجامع بين رأيي الحكيمين: أفلاطون اللاهوتي وأرسطوطاليس55. وحين ننظر مثلًا إلى الترجمة العربيّة لفكر الفيلسوف الأفلوطيني برقلس ليريكوس، في النص المعروف باسم كتاب الإيضاح في محض الخير، الذي وصل إلى العالم اللاتيني تحت اسم في المسببات Liber de Causes، لا تجد مجرد ترجمة لفكر برقلس كما نراه في نصوصه اليونانيّة المحفوظة لدينا، بل تجد إعادة تقديم وانتقاء مبرمج وموجَّه معرفيًّا وافتراضيًّا لتركيب طرحٍ فلسفيٍّ خاصٍ من خلال إعادة سرد وتقديم فكر برقلس وفق افتراضات ورؤى عربيّة مُسبقة الصنع56. ما لدينا هنا هو أفلاطون وأرسطو وبرقلس، وقد جرى تعريبهم وإعادة خلقهم وتركيب فكرهم وفق مخيالٍ وجودي عربيّ جديد لا يشبه الإغريقي.

من المصيب، لهذا، حين نقرأ الفارابي -أو الكندي- أن ندرك أنَّ هذا الفيلسوف العربيّ لم ينقل الفلسفة اليونانيّة حياديًّا ولم يُردد أفكارها بلغة عربيّة؛ بل إنَّه مزج ما بين مدارس فلسفيّة يونانيّة مُختلفة وأعاد صياغتها بمنطقٍ تفاعلي يُؤسس لقراءة مُتجددة خلَّاقة لتلك الفلسفة، على قاعدة إعادة سردها من خلال دمجها بالفكر اللاهوتي الإسلاميّ أو لهوتتها، بطريقة تبين أنَّ الفارابي، بعيدًا عن حياديّة سلبيّة، استخدم أفكار الفلسفة اليونانيّة بشكل مُعدَّل يناسب الفكر الإسلاميّ ويخدمه57. لو كان الفارابي يكتفي بمجرد تماس حيادي صرف ومجرد نقل للفلسفة اليونانيّة كما هي دون التورط في تفاعل فعلي وخلاّق معها وكأنها فلسفة مضادة مفارقة، لما رأيناه مثلًا يرفض تبني قراءة الفيلسوف واللاهوتي المسيحي يوحنا النحوي (المعروف أيضًا باسمه اليونانيّ جون فيلوبونوس) عن فيض Emanation العالم من هيولى قديمة معادلة لله في الأزليّة ويقوم بكتابة نص فلسفيّ مطعَّم بالفكر القرآني ومؤسَّس عليه ضد يوحنا النحوي بالتحديد58.

إنَّ إدراك الأوروبيين لهذا هو ما يجعل توما الأكويني في القرون الوسطى يستخدم فكر أرسطو كما قرأه في نصوصه المباشرة جنبًا إلى جنب، وعلى التوازي، مع فكر أرسطو كما يقدمه ابن رشد في نصوصه وينقله. يفعل توما الأكويني هذا دون أن يخلط بين فكري الفيلسوفين ودون أن يعتبر طرح الثاني مجرد نقل حيادي حَرفي لفكر الأول. هذا يعني أنَّ الأكويني يدرك أنَّ ابن رشد لم يكتف بنقل فكر أرسطو بشكل نقي تعففي غير متورط، بل نقل تفاعله المفتوح والعميق مع الفكر الأرسطي، لا اليونانيّ بل المُعرَّب والمؤسلَم. ولهذا، في عمله الأساس، الخلاصة اللاهوتيّة Summa Theologia، يستشهد الأكويني بكلام أرسطو (يسميه الفيلسوف) وبكلام ابن رشد كقولين متمايزين وليسا تردادًا لبعضهما البعض.

تلك مجرد أمثلة تاريخيّة قليلة تظهر لنا أنَّ الفكر العربيّ لم يبق على تماس هامشي حيادي مع الفكر الإغريقي، ولم يقم بمجرد نقله كما هو وكأنَّ الفكر العربيّ المُتخيَّل آخرٌ حضاريٌ مفارقٌ على قطيعة مع إرث العهد العتيق المتأخر. بل على عكس ذلك، فقد تفاعل العرب مع الفكر اليونانيّ تواصليًّا وتورطًا وأعادوا صياغته، بل وعربوا مضامينه وأسلموها ولم يعتبروه مضادًا، بل جذرًا ومنبعًا. من هنا أقول أنَّ قراءة عزيز العظمة التاريخولوجيّة للفكر الإسلاميّ العربيّ أكثر دقة وموضوعيّة من قراءة طه عبد الرحمن التضاديّة الاختلافية. التاريخ يقول لنا أنَّ الاختلاف العربيّ الفلسفيّ لم يتحقق بالتضاد والنأي بالذات، بل بالتكامل والاستمراريّة والتواصل التكافلي.

خاتمة

أود أن أختم دراستي هذه ببعض النقاط التلخيصيّة والتقييميّة عن مشروع طه عبد الرحمن التحديثي للفلسفة العربيّة:

أولا: في سعيه لخلق فلسفة عربيّة قوميّة مخالفة ومقاومة تتضاد مع الفلسفة الأوروبية-الإغريقية-اليهودية، يقع عبد الرحمن في فخ استخدام افتراضات وقراءات هرمنيوتيقيّة ومنهجيات معرفيّة ومفاهيم قبليّة مأخوذة برمتها من الفضاء الفلسفيّ نفسه الذي يدعو العرب للمفارقة عنه والتضاد معه. وهو بهذا لا يختلف في الواقع في استراتيجيات عمله عن فتحي المسكيني الذي يدعو لمغايرة فلسفيّة قوامها التشارك والانفتاح لا التضاد ولا التنازع مع الفلسفات العالمية، بما فيها الغربية. كلا الفيلسوفان ينهل من منابع فلسفيّة مابعد-حداثويّة ومابعد-هايدغريّة ويوظفها في مشروعه، إنما من خلال نفاذات تفسيريّة وقراءات متباينة. يستعين عبد الرحمن بتفسير جيل دولوز لقراءة هايدغر لتاريخ الفكر الأوروبي، متبنيًّا قراءة دولوز لسرد هايدغر على أنه ينمذج فكرة «التمايز بمعنى الاختلاف والتقابل الضدي» differentiation in contrariety. بدوره، يعود فتحي المسكيني إلى سرديّة هايدغر عينها ويعتمد عليها، إلا أنّه يستعين بالقراءة التفسيريّة لهذا السرد كما يقدمها إيمانويل ليفناس وبول ريكور، اللذان يقرآن سرد هايدغر على أنَّه ينمذج فكرة «التمايز» لا كتقابل بل بمعنى مشاركة وغيريّة جامعة مع الآخر59. وبالمقارنة بين المنهجين، يبدو لي طرح فتحي المسكيني والعلاقة التي يجترحها مع الفلسفة الأوروبيّة أكثر تماسكًا وانسجامًا مع الذات، لأنَّ المسكيني لا يدين ولا يناهض فلسفة لاعربيّة ولا يعتبرها عدوًا مضادًا، ومن ثم يستعين بأدوات فلسفيّة من صندوق معدات تلك الفلسفة دون سواها.

ثانيا: بحديثه عن الاختلاف، يحاول عبد الرحمن أن يؤرِّض لهويّة فلسفيّة مختلفة بقوامها ومقاومتها وقيامها في تربة الواقع العربيّ المعيش. ولكن، يبدو أنَّ هناك خلطا مفاهيميا في فعله هذا بين «التأريض» وبين «التأطير»؛ الأمر الذي يحوِّل الاختلاف إلى فعل نأي بالذات وأخرنتها بشكل تضادي تقابلي ينفي التفاعل والحوار الفعليين مع الأخر. يصبح الحوار في هذه الحالة، الذي يدعو له عبد الرحمن، لا فرصة للتلاقح والتبادلية، بل لحظة إعلان عن تحويل التفاعل إلى ساحة صدام وانعتاق من التأثير المتبادل، بحجة أنَّ التبادليّة تولِّد فعل هيمنة واستلاب. هذا الطرح ليس دعوة للحوار في الواقع، بل دعوة لاجتناب الحوار أو إفراغه من معناه أو حتى شيطنته في الحقيقة، إذ لا حوار بين مختلفين ما لم يكن مبنيًّا على التفاعل والتشارك والتبادلية.

ثالثا: يقرأ عبد الرحمن تأثير الفلسفة الأوروبيّة-الإغريقيّة-اليهوديّة على الفكر العربيّ على أنه فعل تهويد وصَهيَنَة يجب للفيلسوف العربيّ أن يتحول فتى مجاهدًا ومقاومًا ضده، جاعلًا من الفلسفة العربيّة فعل جهاد ومقاومة يمنع الفلسفة العربيّة من أن تتحول إلى فعل يخدم عدو العرب ويُطبِّع معه ويخدم الفكر التهويدي الذي يمهّد للعمل السياسيّ للصهيونيّة ويساهم فيه ويتفلسف له60. مع أنَّ عبد الرحمن يقول أنه لا يتطرق للسياسة، إلا أنَّ طرحه لا يخفي في المقاربة واستراتيجيّةَ النقاش توجهاته التي تُسيِّس الفلسفة وتحوِّلُها إلى عملٍ إيديولوجيٍّ وفعلِ مواجهة ضد مؤامرة. ضمن هذا الانهماك المفرط بنظريّة المؤامرة الصهيونية، يخلط عبد الرحمن بين الثقافي والسياسيّ، وبين الفلسفيّ والإيديولوجي العقائدي. صحيح تاريخيًّا أنَّ الفكر الفلسفيّ لمفكرين غربيين كثر أثرت فيه بعمق خلفيتهم اليهوديّة، وأنَّ التراث الفكري اليهودي أثّر بعمق على تاريخ الفكر الأوروبي؛ غير أنَّ هذا التأثير اليهودي لا يقتصر على الفكر الأوروبي، بل يتعداه ليصل إلى الفكر العربيّ التاريخيّ أيضًا. يعلم الباحثون في تاريخ الفكر الإسلاميّ المبكر، والذين يدرسونه في سياق سيرورة تطوره التاريخانيّ، بأنَّ هناك تأثيرًا بل ومساهمةً عميقين للمفكرين المتكلمين والفلاسفة اليهود على خلق وتطوير علمي الكلام والفلسفة العربيّة في العصر العباسي المبكر. يكفي أن نذكر أسماء بعض المتكلمين اليهود الذين نملك نصوصهم التي كتبوها بالعربيّة بين أيدينا اليوم، أمثال مروان بن داوود المقمص، سعديّة غاوون وابن ميمون، لنتذكر مساهماتهم العربيّة في تطوير علم الكلام والمنطق الدينيّ.

لماذا لا نعتبر هذا الدور والمساهمة محاولات تهويديّة أيضًا؟ لماذا لا يتوقف عبد الرحمن عند تلك اللحظات اليهودية من تاريخ الفكر العربيّ؟ السبب برأيي يعود إلى أنه اختار أن يقرُن اليهوديّة بشكل كلّي ونهائي بأحد تمظهراتها السياسيّة الإيديولوجيّة المعاصرة، التي تشكل للعرب المعاصرين تحديًا، ألا وهي الصهيونية. إلا أنَّ تركيزه الضيّق هذا على معضلة سياسيّة صرفة واختزاله لفكر ثقافي كامل بها يؤذي فلسفيّة وتاريخولوجيّة طرحه ذاته ويوقعه في فخ الاختزال والاقصائيّة التي تقود إلى خلق نظرة عنصريّة تصنيفيّة للعرب أنفسهم: اختزال اليهوديّة بالصهيونيّة يقود إلى اختزال العربيّة إلى عروبويّة وإلى نمذجتها بكيان سوسيولوجي عروبوي تصنيفي يتم ترتيب أفراده ومعايرة انتماءهم وأصالته على قاعدة درجة مقاومتهم ورفضهم للفلسفة الغربيّة ومشروعها المؤامراتي التهويدي المزعوم. في مثل هكذا توجُّه، لا أرى لا حداثويّة ولا تنوير فلسفيّ، بل قتل مؤدلج للفلسفة وتشويه لماهيتها كفعل تساؤلي حر.

ما حاولتُ القيام به في هذه الدراسة هو اتباعي لدعوة طه عبد الرحمن نفسه لنا للتفلسف على قاعدة مساءلة التساؤل وممارسة السؤال المسؤول على أنفسنا. ما قمت به هو أنَّني طبقت هذا المنهج على تساؤل طه عبد الرحمن المسؤول بحد ذاته، معرِّضًا تعريضه للسؤال الفلسفيّ للتساؤل بحد ذاته إلى عمليّة مساءلة وتساؤل مماثلة. قد اتفق في المبدأ مع تقييم وائل حلاق لمشروع طه عبد الرحمن في كتابه الأخير حيث يقول عن هذا المشروع:

«إنَّ مشروع طه الفلسفيّ هو توليفة تأتي بعد، وترفض في نفس الوقت، كل من الفرضيّة الاستعمارويّة ونقيضها المتمثل في الإسلامويّة السياسيّة [أي كل من قراءة التراث الإسلاميّ كنتاج فلسفيّ إغريقي صرف، من جهة، أو كخطاب سياسيّ تشريعي مضاد للعقل ومشغول حصرًا بالسلطة، من جهة أخرى]. في مداه الأقصى، مشروعه هو، زمنيًا، مشروع حداثوي يسعى لبعث وتسخير عصرٍ إسلاميّ أخلاقي في ما يمكن أن نصفه بسهولة بالنقد مابعد-الحداثوي أو بفلسفة أخلاقيّة بامتياز»61.

إلا أنَّني حاولت أن أقترح في ورقتي هذه بأنَّ القيام بعمليّة تحديث للفكر الإسلاميّ وتسليط الضوء على إرهاصاته ومعطياته الأخلاقيّة لا يتطلب منا بالضرورة اجتراح محاولة لتشكيل فكر فلسفيّ عربيّ جديد يتصف بالتضاد ويهجس بالمقاومة والسعي المحموم للتفرد بالذات. عندها، سيقع طه عبد الرحمن في نفس الميل القوموي الذي ينتقد عليه محمد عابد الجابري قبل سواه. صحيح تمامًا أن أداة طه عبد الرحمن المفاهيميّة وعدّة عمله الاستراتيجيّة في مشروعه تدور حول مفهوم «الحوار»62، إلا أنَّه يقول أيضًا أنَّ آليات فهم واستخدام طه عبد الرحمن للحوار تقدم لنا مفكرًا ينحو للجدل dialectic والتنازع وليس للحوار، لدرجة تجعل من حواره التضادي سلاحًا مسلطًا ضد مشروعه ذاته وقد يصيبه في مقتل في المحصلة الأخيرة.

قائمة المراجع

عبد الرحمن، طه. الحق العربيّ بالاختلاف الفلسفيّ. الدار البيضاء وبيروت: المركز الثقافي العربيّ، 2006.

________. في أصول الحوار وتجديد علم الكلام. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربيّ، 2000.

المسكيني، فتحي. الهويّة والحرية: نحو أنوار جديدة. بيروت: جداول للطباعة والنشر، 2011.

________. الهويّة والزمان: تأويلات فينومينولوجيّة لمسألة «النحن». بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر، 2001.

al-Azmeh, Aziz. Islams and Modernities. 3rd ed. London & New York: Verso, 2009.

________. The Emergence of Islam in Late Antiquity: Allah and His People. Cambridge & New York: Cambridge University Press, 2014.

Awad, Najib George. “Creatio ex Philosophia: Kalâm as Cultural Evolution and Identity-Formation Means in the Early Abbasid Era.” The Muslim World. vol. 4, no. 109 (2019), p. 510-534.

Baracchi, Claudia. “The Shinning and the Hidden: Notes on Politics and Solitude from the ‘Greek Prophets’ to al-Fârâbî.” in: Ahmad Alwishah & Josh Hayes (eds.). Aristotle and the Arabic Tradition. Cambridge: Cambridge University Press, 2015, p. 214-232.

Bauer, Thomas. Warum es kein islamisches Mittelalter gab: Das Erbe der Antike und der Orient. München: Verlag C.H.Beck oHG, 2018.

Black, Deborah. “Al-Fârâbî”, in: Seyyed Hossein Nasr & Oliver Leaman (eds.). History of Islamic Philosophy. London & New York: Routledge, 1996, p. 178-197.

D’Ancona-Costa, Cristina. “Aristotle and Aristotelianism.” in: Kate Fleet et al (eds.). Encyclopaedia of Islam. 3rd ed. Brill Reference Online. accessed on 23/02/2021, at: https://bit.ly/3uMig3k

________. “Greek Sources in Arabic and Islamic Philosophy.” in: Edward N. Zalta (ed.). The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Fall 2019 Edition), accessed on 23/02/2021, at: https://plato.stanford.edu/archives/fall2019/entries/arabic-islamic-greek

________. “The Topic of the ‘Harmony between Plato and Aristotle’: Some Examples in Early Arabic Philosophy.” in: A Speer & L. Wegener (eds.). Wissen Über Grenzen. Arabisches Wissen und Lateinisches Mittelalter. Berlin: De Gruyter, 2006, p. 379- 405.

Deleuze, Gilles. Difference and Repetition. Paul Patton (trans.). New York: Columbia University Press, 1994.

Fakhry, Majid. Philosophy, Dogma and the Impact of Greek Thought in Islam. Aldershot: Variorum, 1994.

Habermas, Jürgen. On the Pragmatics of Social Interaction: Preliminary Studies in the Theory of Communicative Action. Barbara Fultner (trans.). Cambridge, Mass: Polity Press, 2003.

Hallaq, Wael B. Reforming Modernity: Ethics and the New Human in the Philosophy of Abdurrahman Taha. New York & Chichester: Columbia University Press, 2019.

Levinas, Emmanuel. Humanism of the Other. Nidra Poller (trans.). Urbana & Chicago: University of Illinois Press, 2006.

________. Otherwise than Being, or Beyond Essence. Alphonso Lingins (trans.). Pittsburgh: Duquesne University Press, 1998.

Mahdi, Muhsin. “Al-Fârâbî Against Philoponus.” Journal of Near Eastern Studies. vol. 26, no. 4 (1967), p. 233-260.

Richard Netton, Ian. Al-Fârâbî and his school. London: Curzon Press, 1992.

Ricoeur, Paul. Oneself as Another. Kathleen Blamey (trans.). Chicago & London: The University of Chicago Press, 1992.

Wain, Alexander. “A Critical Study of Mabâdî̛ Ârâ̛ Ahl al-Madîna al-Fâḍilah: The Role of Islam in the Philosophy of Abû Naṣr al-Farâbî”. The Journal of Islamic Philosophy. no. 8 (2012), p. 45-78.


1 طه عبد الرحمن، الحق العربيّ بالاختلاف الفلسفيّ (الدار البيضاء وبيروت: المركز الثقافي العربيّ، 2006).

2 المرجع نفسه، ص 4.

3 المرجع نفسه، ص 16.

4 المرجع نفسه، ص 22.

5 المرجع نفسه، ص 22.

6 المرجع نفسه، ص 28؛ في كتاب آخر يدرس فيه أيضًا موضوع الحوار، يقرن عبد الرحمن ما بين الحوار ومفهوم التعارض، مبينًا أن مفهوم التعارض المذكور يشمل في طياته مضامينه حالات الخلافيّة والتناقضيّة والتضادية، يُنظر: طه عبد الرحمن، في أصول الحوار وتجديد علم الكلام (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربيّ، 2000) ص 50 (ص. 42-58).

7 عبد الرحمن، الحق العربيّ بالاختلاف الفلسفيّ، ص 29.

8 المرجع نفسه، ص 53-54.

9 المرجع نفسه، ص 55-56.

10 المرجع نفسه، ص 56.

11 المرجع نفسه، ص 56-57.

12 المرجع نفسه، ص 58.

13 المرجع نفسه، ص 61-65.

14 المرجع نفسه، ص 66.

15 المرجع نفسه، ص 67-70.

16 المرجع نفسه، ص 70-79.

17 المرجع نفسه، ص 80.

18 المرجع نفسه، ص 81.

19 المرجع نفسه، ص 186.

20 المرجع نفسه، ص 186.

21 المرجع نفسه، ص 189.

22 Jürgen Habermas, On the Pragmatics of Social Interaction: Preliminary Studies in the Theory of Communicative Action, Barbara Fultner (trans.), (Cambridge, Mass: Polity Press, 2003), p. 3-22, p. 13-14.

23 المرجع نفسه، ص 22.

24 فتحي المسكيني، الهويّة والحرية: نحو أنوار جديدة (بيروت: جداول للطباعة والنشر، 2011)، ص 9.

25 المرجع نفسه، ص 9.

26 المرجع نفسه، ص 10.

27 المرجع نفسه، ص 11.

28 المرجع نفسه، ص 10-11.

29 المرجع نفسه، ص 12.

30 المرجع نفسه، ص 11.

31 المرجع نفسه، ص 17.

32 المرجع نفسه، ص 212-213.

33 المرجع نفسه، ص 215.

34 المرجع نفسه، ص 216.

35 المرجع نفسه، ص 217.

36 المرجع نفسه، ص 218.

37 المرجع نفسه، ص 222.

38 المرجع نفسه، ص 223.

39 المرجع نفسه، ص 224.

40 المرجع نفسه، ص 225.

41 طه عبد الرحمن، الحق العربيّ بالاختلاف الفلسفيّ، ص 54.

42 المرجع نفسه، ص 56-57.

43 المرجع نفسه، ص 58؛ في أحد مؤلفاته الأخرى، يتأمل فتحي المسكيني في تعاطي ابن رشد مع الفلسفة الأرسطيّة مؤكدًا أنه لم يقاربها كمحايد غير معنى بتواصل عميق معها، بل كمن يؤمن بالقرابة الأصليّة مع الأقدمين، الذي نستبصره «على أنه الأفق الأصلي لما نزمع على التفكير فيه». يُنظر: فتحي المسكيني، الهويّة والزمان: تأويلات فينومينولوجيّة لمسألة «النحن» (بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر، 2001)، ص 111-113.

44 Aziz al-Azmeh, The Emergence of Islam in Late Antiquity: Allah and His People, (Cambridge & New York: Cambridge University Press, 2014), p. 2;

سبق إصدار العظمة لكتابه هذا كتاب أصدره الباحث الألمانيّ في جامعة مونستر، توماس باور، عن مسألة قراءة الإسلام تاريخيًّا على أنه تمثيل لمرحلة تاريخيّة اسمها «العصر الوسيط» Middle Ages، حيث يُقدم باور نقدًا منهجيًّا مُهمًا لمفهوم «عصر وسيط» برمته ويفكك أصوله ومنابعه الإيديولوجيّة والتصنيفيّة الأوروبيّة ومن ثم يقترح، تمامًا مثل العظمة، بأن علينا أن ننظر للإسلام على أنه تعبير عن امتداد للعصر العتيق المتأخر وحالة سيرورة تطور لهذا العصر دون سواه وأن الإسلام لا يمكن قراءته إلا كتعبير تاريخيّ وسياقي ثقافي للعصر المتأخر، يُنظر:

Thomas Bauer, Warum es kein islamisches Mittelalter gab: Das Erbe der Antike und der Orient (München: Verlag C.H.Beck oHG, 2018).

45 al-Azmeh, p. 2.

46 Ibid., p. 4.

47 Ibid., p. 15.

48 Ibid., p. 17.

49 Ibid., p. 24.

50 Ibid., p. 35.

51 Ibid., p. 36.

52 Ibid., p. 39.

53 Ibid., p. 43.

54 Ibid., p. 44-45;

على قاعدة التواصل المعرفي والتثاقفي يؤكد عزيز العظمة في دراسة أخرى على أنَّ مفهوم «الأسلمة» المعاصر بحد ذاته ما هو في الحقيقة سوى امتداد تثاقفي معرفي لم يولد من التقليد التاريخيّ الإسلاميّ-العربيّ، بل إنه إحدى ثمار تأثير الحداثة الأوروبيّة بحد ذاتها على الفضاء السوسيولوجي والفكري العربيّيين في القرن التاسع ومطلع القرن العشرين. يجعل عذا العظمة يؤكد على أنَّ «تاريخ العالم العربيّ في القرني ونصف المنصرمين [التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين] ما هو إلا تاريخ من التأثير التثاقفي التصاعدي»، بحيث أن التقاليد المعرفيّة الإسلاميّة اقتبست تثاقفيًا من الفكر الحداثوي العالمي مفاهيم مثل «مفهوم الأمة»، و«مفهوم الاقتصاد»، و«مفهوم المجتمع»، و«مفهوم الجماعة كمجموعة أفراد»، و«مفهوم مجموع الحقوق المطلقة». كل تلك المفاهيم، يجادل العظمة، بأنَّها ليست إسلاميّة التاريخ والخلفية، بل تنتمي لمنظومة الفكر الحداثوي العالمية، يُنظر:

Aziz al-Azmeh, Islams and Modernities, 3rd ed. (London & New York: Verso, 2009), p. 212-213.

55 يُنظر حول هذا النص للفارابي وعلاقته بالتفاعل مع الفلسفة اليونانيّة ومصالحة الفارابي بين أفلاطون وأرسطو:

Majid Fakhry, “Al-Farābī and the Reconciliation of Plato and Aristotle”, in: Majid Fakhry, Philosophy, Dogma and the Impact of Greek Thought in Islam (Aldershot: Variorum, 1994), p. 469-478; Deborah Black, “Al-Fārābī”, in: Seyyed Hossein Nasr & Oliver Leaman (eds.), History of Islamic Philosophy (London & New York: Routledge, 1996), p. 178-197; Ian Richard Netton, Al-Fārābī and His School (London: Curzon Press, 1992); Claudia Baracchi, “The Shinning and the Hidden: Notes on Politics and Solitude from the ‘Greek Prophets’ to al-Fārābī,” in: Ahmad Alwishah & Josh Hayes (eds.), Aristotle and the Arabic Tradition, (Cambridge: Cambridge University Press, 2015), p. 214-232; Cristina D’Ancona-Costa, “Greek Sources in Arabic and Islamic Philosophy,” in: Edward N. Zalta (ed.),The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Fall 2019 Edition), accessed on 23/02/2021, at: https://plato.stanford.edu/archives/fall2019/entries/arabic-islamic-greek; Cristina D’Ancona-Costa, “Aristotle and Aristotelianism,” in: Kate Fleet et al (eds.), Encyclopaedia of Islam, 3rd ed, Brill Reference Online, accessed on 23/02/2021, at: https://bit.ly/3uMig3k; Cristina D’Ancona-Costa, “The Topic of the ‘Harmony between Plato and Aristotle’: Some Examples in Early Arabic Philosophy,” in: A Speer and L. Wegener (eds.), Wissen Über Grenzen. Arabisches Wissen und Lateinisches Mittelalter (Berlin: De Gruyter, 2006), p. 379- 405.

56 يُنظر حول برقلس وتأثيره على الفكر الفلسفيّ وعلم الكلام العربيّ في القرن 9م/ 3ه وكذلك عن تلقي الفكر العربيّ لفسفة أرسطو في الفترة نفسها:

Najib George Awad, “Creatio ex Philosophia: Kalām as Cultural Evolution and Identity-Formation Means in the Early Abbasid Era”, The Muslim World, vol. 4, no. 109 (2019), p. 510-534.

57 يُنظر حول هذا الدراسة التالية:

Alexander Wain, “A Critical Study of Mabādī ̛ Ārā ̛Ahl al-Madīna al-Fāḍilah: The Role of Islam in the Philosophy of Abū Naṣr al-Farābī”, The Journal of Islamic Philosophy, no. 8 (2012), p. 45-78.

58 المرجع نفسه، ص 54. يُنظر أيضًا الدراسة لرد الفارابي على يوحنا النحوي في:

Muhsin Mahdi, “Al-Fârâbî Against Philoponus”, Journal of Near Eastern Studies, vol. 26, no. 4 (1967), p. 233-260.

59 حول هاتين القراءتين الفلسفيّتين لفكر هايدغر ولمفهوم الاختلاف في سياق تطوره المفاهيمي في الفكر الغربي، يمكن قراءة:

Gilles Deleuze, Difference and Repetition, Paul Patton (trans.), (New York: Columbia University Press, 1994); Paul Ricoeur, Oneself as Another, Kathleen Blamey (trans.), (Chicago & London: The University of Chicago Press, 1992); Emmanuel Levinas, Humanism of the Other, Nidra Poller (trans.), (Urbana & Chicago: University of Illinois Press, 2006); Emmanuel Levinas, Otherwise than Being, or Beyond Essence, Alphonso Lingins (trans.), (Pittsburgh: Duquesne University Press, 1998).

60 طه عبد الرحمن، الحق العربيّ بالاختلاف الفلسفيّ، ص 62، 66.

61 Wael B. Hallaq, Reforming Modernity: Ethics and the New Human in the Philosophy of Abdurrahman Taha (New York & Chichester: Columbia University Press, 2019), p. 25.

لا يصعب على المطلع على مشروع محمد عابد الجابري الفكري الاتفاق مع ملاحظة حلاق للمدى البعيد لتأثير إغراق طه عبد الرحمن في التضاد مع مشروع الجابري على طروحاته ومقارباته لعلاقة الفكر الغربي الأوروبي بالإرث الإسلاميّ وبآليات مقاربات هذا الأخير التحديثيّة المعاصرة.

62 المرجع نفسه، ص 26. مع ذلك، لا أتفق مع حلاق في تسميته لمشاهدات طه عبد الرحمن الفكريّة المتعددة بأنها «منظومة» بنيويّة ويمكن دراستها وكأنها كلٌ متكاملٌ وإن كان هجينًا في مظهره. أتساءل بجد ما إذا كان من الممكن استخدام مفهوم «المنظومة» (system) حقًا لنتحدث عن فكر طه عبد الرحمن، مثلما يمكننا الحديث باستخدام المصطلح نفسه عن مشروع محمد عابد الجابري.