سرديّة ذات نزوعات تنويريّة في الخطاب الإصلاحي الإسلاميّ المعاصر:
النشأة والتطوّر والانتكاس

سهيل الحبيّب*

doi:10.17879/mjiphs-2022-3896

تُحاول هذه الورقة أن تبيّن كيف أن شطرًا من خطاب المصلحين المسلمين في العالم العربيّ، بين نهايات القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، يستبطن ضربًا من ضروب السّرديات أو المرويات الكُبرى الجديدة التي حاول من خلالها بعض أعلام الفكر الإصلاحيّ الإسلاميّ المعاصر، وعلى رأسهم محمد عبده، أن يكرّس هويّة ثقافيّة وحضاريّة إسلاميّة ذات نزوعات تنويريّة بالمعنى المتعارف عليه عند فلاسفة أوروبا في القرنين السابع والثامن عشر. وقد نشأتْ هذه السرديّة في شروط تاريخيّة مخصوصة موسومة بتسلّل الخطاب العلماني إلى الفكر العربيّ المعاصر خلال تلك المرحلة. بيد أن متغيّرات الواقع العربيّ خلال القرن العشرين لم تتح لهذه السرديّة أنْ تتطوّر وتتكرّس في الثقافة العربيّة، بل بالعكس عرفت انتكاسًا واضحا مع هيمنة سرديات خطاب الإسلام السياسيّ ومتخيّلاته.

كلمات مفتاحية: سردية كبرى؛ تنوير؛ الإصلاح الإسلاميّ؛ محمد عبده

* باحث بمركز الدراسات الإسلاميّة بالقيروان، جامعة الزيتونة، تونس.

Narrative with enlightening tendencies in contemporary Islamic reform discourse: Origin, development and relapse

Souhail Hbaieb*

This paper aims to clarify how a part of Muslim reformers’s discourse in the Arab world, between the end of the nineteenth century and the first half of the twentieth century, contained a new grand narrative through which some reformers, led by Muhammad Abdo, tried to establish an Islamic identity Influenced by the European Enlightenment as it was known in the seventeenth and eighteenth centuries. This narrative arose in specific historical conditions marked by the infiltration of secular discourse into contemporary Arab thought. However, the changes in the Arab context during the twentieth century did not allow this narrative to develop and be enshrined in Arab culture. On the contrary, there was a clear setback with the dominance of the narratives of political Islam›s discourse.

Keywords: Grand Narrative; Enlightenment; Islamic Reform; Muhammad Abduh

* Researcher at the Center for Islamic Studies of Kairouan, Ezzitouna University, Tunisia.

نعتمد في هذه الدراسة لخطاب المُصلحين المسلمين في العالم العربيّ على مفهوم السرديّة أو المرويّة الكبرى بالمعنى الذي حدّده أحد الباحثين في توليفة بين رؤيتيْ كاستورياديس وبول ريكور:

«المرويات الكبرى خطابات من الدرجة الثانيّة تنتقد وتصف وتبدد وتُمزِّق خطابات الدرجة الأولى والممارسات التي تُشكّل نسيج الحياة الاجتماعيَّة. المرويات الكُبرى هي التأويلات المُتجاوزة التي تكوّن مؤسسة المُجتمع، والتي تكرر ما وُجد ويوجد، لكي نكون ما كنّا أو سنكون، ولكي نصير ما نحن عليه. وحتى نضفي على هذا المقترح الأسماء والأشكال المناسبة له نقول إن المرويات الكبرى هنا صياغات مفهوميّة للجمع بين تحليل «كاستورياديس» للمخيال الاجتماعيّ، ورواية ريكور عن التكرار السردي»1.

إن السرديات الكبرى، بهذا المعنى، هي صانعة للهويات، أو مساهمة في صُنعها على الأقل، والعلوم الاجتماعيَّة الحديثة باتتْ ترى الصياغة «السرديّة طريقة كونيّة في فهم الذات تنتشر على قاعدتها أشكال عديدة من السرد التقليدي … تساهم في نحت عدد من الهويات السرديّة الفرديّة والجماعيَّة»2.

هذه السرديّة التي حاول المصلحون تأسيسها، تتوفّر على عناصر أساسيّة من مبادئ التنوير وقيمه، حتى لا نقول إنَّها هويّة سرديّة تنويرية. في هذا المعنى تحديدًا نتحدّث عن سرديّة إسلاميّة مضمّنة في خطاب شطرٍ مُعتبرٍ من المصلحين العرب المعاصرين، وذلك من جهة كونه خطابًا ثانيًّا مُؤوّلًا لخطاب الإسلام الأول «القرآن الكريم»، ومن ثمة فهو يؤسّس لهويّة ثقافيّة وحضاريّة جديدة.

أولًا. تحديات السرديّة العلمانيّة الوليدة
وحتميّة إعادة تأويل الإسلام

لا يمكن أن نفهم شروط نشأة هذه السرديّة الإسلاميّة الجديدة ونفهم مضامينها ذات المنزع التنويري بدون أن نفهم السرديّة المكوّنة للخطاب العلماني الذي بدأ يتسلّل إلى الفكر العربيّ المعاصر مع كتابات روّاد النهضة من الكتّاب المسيحيّن بالأساس. وعلى وجه التدقيق نُقدّر أنَّه إذا كانت كتابات محمد عبده تُمثّل النواة الصلبة والأساسيّة لهذه السرديّة الإسلاميّة، كما سنرى في قادم عناصر هذه الورقة، فإنّه من الضروري استحضار مضامين الخطاب الإصلاحي العلماني الناشئ في السياق العربيّ ما بين نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وأشهرها تلك المضمّنة في كتابات شبلي شميّل وفرح أنطون. ذلك أنَّ القسم الأوفر من الأفكار التنويريّة التي أبان عنها الخطاب الإصلاحي لعبده قد تشكّلت، بالأساس، في سياق حواراته، المباشرة وغير المباشرة، مع ذاك الخطاب العلماني وما حاول أن يكرّسه من سرديّة تحكي مسار النهوض الأوروبيّ.

حاول الخطاب الإصلاحيّ العلمانيّ، ومن أبرز تجسيداته كتابات شميّل وأنطون، أن يؤسس منظورًا للإصلاح والنهضة في العالم العربيّ على قاعدة ضرب من ضروب السرد لما حدث في أوروبا خلال القرن الثامن عشر. لا تتطابق سرديتَا شميّل وأنطون تطابقًا كاملًا، لكنَّهما تتقاطعان في الجوهر الذي مؤداه أنَّ قاعدة نهوض بلدان هذه القارة تتمثّل في أنَّها اعتمدتْ على العلم والعقل عوضًا عن الدين والخرافة. هكذا سرد شميّل قائلًا: «إنَّ أوروبا نفسها لم تبتدئ تصطلح إلا منذ القرن الثامن عشر حين بزغت شمس العلوم الطبيعيَّة ضئيلة في أول الأمر وأخذ ضياؤها يُنشر بين الناس ويبدد غيوم تلك العلوم المظلمة. فتنبهت الأمم حينئذ وأخذت تتغيّر في نوع أحكامها (...) ولكن الاجتماع لم يخط الخطوة الصائبة في سبيل ارتقائه الحقيقي حتى صار ارتقاؤه أسلم إلا من بعد ما تأيد مذهب التحوّل الطبيعي [مذهب النشؤ والارتقاء] ورُكّز على قواعد ثابتة وتحوّلت به قوى العقل من التخبط في دياجير الخيال إلى الدرس الاختباري»3.

وإذا كان نهوض الدول الأوروبيّة الحديثة، كما تمثّله كلّ روّاد فكر النهضة العربيّة الحديثة، يتجسّد في تطوّرها العلمي ونُظم حكمها السياسيّة المدنيّة المُقامة على قواعد العدل والحريّة وتشريك العامة، فإن شميّل يرى أن نشأة العلم الحديث وانتصاره على الدين هو العامل القاعدي الذي أفرز التحوّلات السياسيّة والاجتماعيَّة، فهو يتخيّل سياسة الاستبداد والظلم باعتبارها سليلة الدين وعلومه، كما يتخيّل سياسة الحريّة والعدل باعتبارها ثمرة الاقتداء بالعلوم الطبيعيّة في سياسة المجتمع. وهو يجنح إلى اعتماد «منهج القياس»، فيرى الحكومة العادلة ووظائفها في الجسم الاجتماعيّ على شاكلة الدماغ ووظائفه في جسم الكائن الحيّ، معتبرًا أنَّ «دماغ الحيوان مقرٌّ لنيابة حقيقيّة عن الجسم كله يلزم أن يكون نموذجًا للحكومة. والأمر بالحقيقة كذلك فإنَّ الأعضاء ترسل أنباءها إلى الدماغ وتحصر فيه لذاتها وآلامها وتشكو له حاجاتها وتخبره باختلال أحوالها كأن الجسم كله مختصر فيه. ووظيفة الدماغ الصحيح كما يقول سبنسر هي التعديل بين المصالح المختلفة الطبيعيّة والعقليّة والأدبيّة والاجتماعيّة. وذلك هو وظيفة الحكومة المطلوب منها التعديل بين مصالح البشر المختلف، بحيث أن كلا منهم ينال حقه بدون أن يضر بالآخر»4.

ويكرِّس فرح أنطون السرديّة ذاتها التي يعتمدها شميّل في شطرها الذي يصوّر نهوض بلدان أوروبا الحديثة من حيث هو انتصار للعقل والعلم على الدين، فهو يقول مثلا: «إنَّ العلم والفلسفة قد تمكّنا إلى الآن من التغلّب على الاضطهاد المسيحيّ. ولذلك نما غرسهما في تربة أوروبا وأينع وأثمر التمدن الحديث»5. بيد أن سرديّة أنطون لا تجعل من انتصار العلم والعقل على الدين قاعدة التمدن السياسيّ، بل بدت لنا وكأنَّها تقلب المسار، فتجعل انتصار السلطة المدنيّة على السلطة الدينيّة عاملًا مساهمًا في انتصار العلم والعقل. وهذا ما يفيده قول أنطون: «الذي سهّل هذا الانتصار كون السلطة المدنيّة انفصلت في الدين المسيحيّ عن الدين وصار القول قولها في كل المسائل. وهذا هو أساس ارتقاء أوروبا. ولو لاه لكان ما بنته مبنيا على الرمال المتحرّكة تذهب به أخف ريح تهب من الجنوب أو من الشمال»6.

لم تكن هذه السرديّة تقلق المصلح المسلم في حدّ ذاتها، بمعنى لم يكن تشغله رواية التحديث الأوروبي على هذا النحو والمصائر التي شهدها الدين المسيحيّ في سياقه، بقدر ما كانت تشغله التعميمات «المنطقية» التي كان يؤسسها المصلح العلماني على مثل هكذا سردية. تعميمات تخصّ علاقة العلم بالدين وعلاقة السلطة السياسيّة المدنية، والمقصود هو الحديث عن العلم والسلطة المدنيّة اللذين بفضلهما نهض الأوروبيون، والذي بدونهما لن يصلح حال العرب في هذه الأزمنة الحديثة. وفي هذا الإطار يذهب شميّل إلى تقرير الموقف العلماني القصي في اعتباره أن العلم الحديث نقيض الدين وبديل منه بما يمكننا تسميته بـ «مثيولوجيا علمويّة بديلة»، فهو يؤكد أن «دين الإنسان الحقّ هو العلم، ومزيته على سائر الأديان أنه نظيرها يعلّم الإنسان ما تعلّمه الأديان، ويفوقها في أنه لا يجوز عليه ما يجوز عليها من تحكّم الإنسان بها في الإنسان، ولا تقيّده نظيرها بزمان أو مكان، فالدين الحقّ هو العلم الصحيح»7.

أما أنطون فيقف عند حدود التنصيص على مقولة الفصل بين العلم والدين، مؤكدًا على أنَّ «العلم يجب أن يوضع في دائرة ‘العقل’ لأنّ قواعده مبنيّة على المشاهدة والتّجربة والامتحان. أمَّا الدين فيجب أنْ يوضع في دائرة ‘القلب’ لأنَّ قواعده مبنيّة على التسليم بما ورد في الكُتب من غير تمحص في أصولها»8. وقاعدة النهوض بالنسبة إلى أنطون هي السلطة المدنيّة التي تنفصل عن الدين، ذلك أنَّه «لا مدنيّة حقيقيّة ولا تساهل ولا عدل ولا مساواة ولا أمن ولا ألفة ولا حريّة ولا علم ولا فلسفة ولا تقدم في الداخل إلا بفصل السلطة المدنيّة عن السلطة الدينيّة. ولا عز ولا تقدّم في الخارج إلا بفصل السلطة المدنيّة عن السلطة الدينيّة»9.

ما كان يمثّل تحديًّا حقيقيًّا بالنسبة إلى المصلح المسلم، وهو يواجه هذا الخطاب العلماني الوليد، هو مؤدى سرديته الذي يفيد أنَّ أي مشروعٍ للإصلاح والنهضة في العالم العربيّ من أجل تدارك تخلفه تجاه الغرب الحديث -مضمون الإشكال النهضوي الكلاسيكي المهيّن زمن ذاك على الفكر العربيّ- سيكون معه مصير الإسلام في المجتمعات العربيّة والإسلاميّة، بالحتم، مماثلًا لمصير المسيحيّة في المجتمعات الغربيّة. ومن الواضح أن محمد عبده قد اختار، في ردوده المباشرة على فرح أنطون10 وفي آخر كتاباته بصورة عامة11، استراتيجيّة في مواجهة هذا الخطاب العلماني غير تلك التي اتّبعها أستاذه جمال الدين الأفغاني وانخرط هو نفسه فيها -ضمنيا على الأقل- حين عرّب رسالة الردّ على الدهريين في ظروف توحي بأن هذا التعريب كان ضربًا من الردّ غير مباشر على كتاب شميّل فلسفة النشوء والارتقاء12.

اعتمد خطاب الأفغاني في الردّ على الدعوات العلمانيّة الوليدة على استراتيجيّة قوامها نسج سرديّة نقيضة تمامًا للسردية العلمانيّة، ومؤداها أن تمدّن الجماعات البشريّة يقوم على أساس الدين، مُطلق الدين، وأنَّ نقيض هذا التّمدّن إنّما هو نتاج مطلق الاعتقادات المناقضة للدين أو الاعتقاد الدهريّة أو النيشريّة -ترجمة لـ Naturalism الأنجليزية- كما يسمي ذلك الأفغاني في الرسالة. ذلك أن «الدين قوام الأمم وبه فلاحها وفيه سعادتها وعليه مدارها. النيشريّة جرثومة الفساد وأرومة الأداد وخراب البلاد وبها هلاك العباد»13. وفي تقديرنا إن عبده، الذي راهن بدايّة على مثل هكذا سرديّة حين بادر إلى تعريب أثر أستاذه، أدرك بسرعة أنَّها محدودة الفاعليّة في مواجهة الخطاب العلماني الذي يحاجه بمنطق أن «دليل الواقع دليل لا يُردّ»، كما في قول أنطون14. و«دليل الواقع»، في سياق ذاك العصر، هو «المدنيّة الأوروبيّة» الذي اقترن فيها التقدم العلمي وصلاح أنظمة الحكم ورقي المجتمعات بتراجع مكانة الدين المسيحيّ وضمور دور المؤسسة الكنسيّة في الشأن العام.

إذن، كانت الشروط الموضوعيَّة تفرض على عبده التسليم بما يقوله خطاب خصمه العلماني في شطره الذي يروي ما وقع في بلدان أوروبا خلال الأزمنة الحديثة واقتران نهوضها بتدحرج مكانة المسيحيّة، لكن مع دحض المتخيّل الذي يبنيه الخطاب العلماني على هذه السرديّة والذي مفاده أنَّ النهوض العربيّ الحديث سيكون حتما على حساب مكانة الإسلام في المجتمعات العربيّة. بمعنى آخر، أدرك عبده، حسب رأينا، أنه ليس بمقدوره أن يواجه تحديات الخطاب العلماني بسرديّة مؤداها أنَّ تخلّي الغرب الحديث عن الدين قاد إلى الفساد، بل بسرديّة مفادها أنَّ المجتمعات العربيّة والإسلاميّة يمكنها أنْ تحقّق مظاهر المدنيّة ذاتها والتقدم ذاته اللذين تحقّقا في الغرب دون التضحيّة بمكانة الإسلام.

يستغرب فرح أنطون، في ردوده على ردود عبده، كيف دفع عبده بالجدال إلى مربع لم يكن يقصده من كتاب ابن رشد وفلسفته قائلا: «لم يخطر لنا ببال أن نجعل بين طبيعتي الديانتين مقابلة ومعارضة لأننا نعلم أن طبائع الأديان كلها منزهة عن الشرّ وداعيَّة للخير وكلها تستمدّ من الله لإصلاح البشر»15. والحقيقة أنَّ ما قام به عبده من دفع بالجدال إلى مربع محوره طبيعة الدينيّن المسيحيّ والإسلاميّ، كان عنوان الاستراتيجيّة التي اعتمدها في الاستجابة لتحديات الخطاب العلماني الوليد، وأساسها، ببساطة، بيان أنَّ طبيعة الإسلام تختلف جذريًّا عن طبيعة المسيحيّة، لذلك فإنَّ مصيره لن يكون بمثل مصيرها في أي صيرورة تحديثيّة تنشدها البلدان العربيّة والإسلاميّة. وتطبيق هذه الاستراتيجيّة هو الذي سيفرض على عبده إعادة تأويل الإسلام وبناء سرديته على نحو جديد.

ثانيًّا. سرديّة جديدة للإسلام ذات معالم تنويريّة

الإسلام دين العقل والعلم والمدنية، وهو كذلك الدين الذي يُحرّر الفرد من كل أشكال الوصايا والتقليد والتبعيَّة. ذاك هو مضمون التأويل الجديد الذي حاولت كتابات محمد عبده الأخيرة أن تكرّسه من أجل التدليل على أنَّ المجتمعات العربيّة والإسلاميّة يمكن أن تتحرّر فكريًّا وثقافيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا مثلما تحرّرتْ المجتمعات الأوروبيّة الحديثة، لكن بدون أن يعرف الإسلام المصير عينه الذي عرفته المسيحيّة. ويلاحظ قارئ هذه الكتابات، بيسر، أنها تتوفّر على خطاب ذي طابع سرديّ. فعبده إذ يعيد تأويل الإسلام، فإنه يفعل ذلك في إطار «روائي» جديد «يحكي» من خلاله سرديّة الوحي الإلهي وتواتر نزول الأديان التوحيديّة عبر تطوّر التاريخ البشري. وهذا ما تجسّد، بشكل واضح، في مُصنّفه الشهير رسالة التوحيد الذي ظهر في أواخر العقد الأخير من القرن التاسع عشر.

صحيح أنَّ هذه الرسالة قد هيمنتْ عليها المباحث الكلاسيكيّة المتعارف عليها في علم الكلام الإسلاميّ القديم، وصحيح أيضا أنَّ عبده لم يخرج، وهو يقدم الإسلام ويعرّف به، في الغالب الأعمّ من مضامينها عن مقرّرات العقيدة الأشعرية، مع ميل إلى الموقف الاعتزالي في بعض المسائل -في موضوع الحسن والقبح خاصة-. لكنَّ هذا لم يحل دون تسلّل مضامين جديدة وطريفة إلى الرسالة، وأهمّها وردت في فصل مثبت في آخرها تحت عنوان «الدين الإسلاميّ أو الإسلام»، وفي إطار عنصر موسوم ب«تطوّر الأديان» أعاد فيه عبده تعريف الإسلام في سياق سرديّة تاريخيّة تقوم على اعتبار أن مجرى تاريخ المجموعة الإنسانيّة على الأرض يشاكل تمامًا مسار حياة الإنسان الفرد الذي يتدرج في نموه من طور أدنى إلى أطوار أرقى، إذ «لم يكن من شأن الإنسان في جملته ونوعه أن يكون في مرتبة واحدة من العلم وقبول الخطاب من يوم خلقه الله إلى يوم يبلغ به الكمال منتهاه، بل سبق القضاء بأن يكون شأن جملته في النمو قائمًا على ما قررته الفطرة الإلهيّة في شأن أفراده، وهذا من البديهيات التي لا يصح الاختلاف فيها وإن اختلف أهل النظر في بيان ما تفرع منه في علوم وضعتْ للبحث في الاجتماع البشري خاصة»16.

ضمن هذا المنظور الذي مؤداه أن الجنس البشري عرف بين لحظة الخلق وطور الكمال مسارًا تاريخيًّا متدرجًا في نموه من الأدنى إلى الأعلى، يبني عبده سرديّة تطوريّة لمسار ظهور الأديان في التاريخ البشري. ففي البدايّة «جاءت أديان والناس من فهم مصالحهم العامة بل والخاصة في طور أشبه بطور الطفولة للناشئ الحديث العهد بالوجود»17. وبعد هذا الطور الأولي تقول هذه السردية: «مضت على ذلك أزمان علتْ فيها الأقوام وسقطت وارتفعت وانحطت وجرّبتْ وكسبتْ وتخالفتْ واتفقتْ وذاقتْ من الأيام آلامًا وتقلبتْ في السعادة والشقاء أيامًا وأيامًا… فجاء دينٌ [إشارة إلى المسيحيّة] يُخاطب العواطف ويُناجي المراحم ويستعطف الأهواء ويُحادث خطرات القلوب فشرّع للناس من شرائع الزهاد ما يصرفهم عن الدنيا بجُملتها ويوجه وجوههم نحو الملكوت الأعلى… وسنّ للناس سُننا في عبادة الله تتفق مع ما كانوا عليه وما دعاهم إليه فلاقى من تعلّق النفوس بدعوته ما أصلح من فاسدها وداوى من أمرضها»18.

وفي الأخير يصل عبده بالسرديّة إلى مُنتهاها المنشود الذي هو مرحلة ظهور الدين الإسلاميّ، إذ لمّا «كان سن الاجتماع البشري قد بلغ بالإنسان أشُدَّه وأعدَّتْه الحوادث الماضيّة إلى رُشده فجاء الإسلام يُخاطب العقل ويستصرخ الفهم واللب ويشركه مع العواطف والإحساس في إرشاد الناس إلى سعادته الدنيويّة والأخروية»19. هكذا يقرن محمد عبده مسار تسلسل ظهور الرسالات الدينيّة بمسار نمو حياة الجنس البشري الماديّة والمعنويّة عبر تاريخه. فلقد جعل كل دين يُوافق طورًا مخصوصًا من أطوار نمو المجموعة الإنسانيّة، بحيث يكون الإسلام -وهو خاتم الأديان- الدين الذي يُوافق أعلى مراحل نمو الجنس البشري، أو ما يسميها عبده بمرحلة سن الرشد البشري. وستكون السرديّة بمثابة القاعدة التي سيعتمدها عبده في سجاله مع خطاب المصلحين العلمانيين الذين عاصرهم، فعلى أساسها سيبني أطروحته في الاختلاف الجوهري في الطبيعة بين الإسلام والمسيحيّة، ومن ثمة سيؤسّس لفكرة اختلاف مصير الديانتين في الحداثة.

سيكتفي عبده في رسالة التوحيد بتقرير بعض المواقف، التي وإن تبدو منسجمة مع مفترضات هذه السردية، فإنها لن تبدو خارجة عن معهود الخطاب الإسلاميّ السنّي، أو على الأقل لن تبدو صادمة لمضامينه التقليدية. أهمّ هذه المواقف التنصيص على مكانة العقل في الإسلام في مثل قوله: «وتآخى العقل والدين لأول مرة في كتاب مقدس على لسان نبي مرسل بتصريح لا يقبل التأويل وتقرر بين المسلمين كافة… أنَّ من قضايا الدين ما لا يمكن الاعتقاد به إلا من طريق العقل كالعلم بوجود الله وبقدرته على إرسال الرسل… كما أجمعوا على أنَّ الدين إن جاء بشيء قد يعلو عن الفهم فلا يمكن أن يأتي بما يستحيل عند العقل»20. وعلى هذا النحو فإن الإسلام، حسب هذا الفهم الذي يؤسّس له عبده، قد «أطلق سلطان العقل من كل ما كان قيده وخلصه من كل تقليد كان استعبده… بهذا وما سبقه تمّ للإنسان بمقتضى دينه [الإسلام] أمران عظيمان طالما حُرم منهما وهما استقلال الإرادة واستقلال الرأي والفكر وبهما كملت له إنسانيّته واستعد لأن يبلغ من السعادة ما هيَّأه الله له بحكم الفطرة التي فطر عليها»21.

بيد أنَّ اللافت، والأكثر أهمية، هو كون مضامين مثل هذه المواقف التي صاغها عبده في رسالة التوحيد ستتطوّر في كتاباته اللاحقة، إذ سينزع بموقف التنصيص على مكانة العقل في الإسلام، واختلافه في ذلك عن المسيحيّة، إلى مضامين تقرّبه، في تقديرنا، من الأفكار العقلانيّة التنويريّة عند فلاسفة أوروبا في القرنين السابع عشر والثامن عشر، كما ستأخذ مقولات نبذ الإسلام للتقليد وتنصيصه على استقلال إرادة الإنسان وفكره أبعادًا أعمق ستُترجم بوضوح نزعة تحرّريّة في خطاب عبده تشاكل، إلى حدّ بعيد في تصورنا، الأفكار التحرّريّة التنويريّة الأوروبيّة المناوئة لكل أشكال التسلّط والقيود والوصايا، ومنها القيود والوصايا الدينيّة، التي تسلب الفرد حريّته وتُكبّل إرادته. ولعلّ الأمر البارز هو كون عبده لم يطوّر هذه السرديّة ذات النزوعات والمعالم التنويريّة في خطابه الموجّه مباشرة للردّ على فرح أنطون، بل طوّرها كذلك، بالتوازي، في دروسه التفسيريّة التي ألقها في جامع الأزهر في الفترة ذاتها تقريبا -أي في فترة احتدام سجاله المباشر مع الخطاب العلماني- والتي نشرها تلميذه محمد رشيد رضا في مجلة المنار ثم في تفسير المنار. بمعنى آخر لم تكن هذه السرديّة مُجرّد خطاب موجّه إلى «الخارج»، أي إلى الخصم العلماني، فقط، بل هي خطاب موجّه إلى «الداخل»، أي إلى المسلمين الباحثين عن فهم جديد للقرآن الكريم.

وإذ نعتبر أنَّ العقل بات يُحيل في كتابات عبده الأخيرة على دلالات العقلنة في مفهومها التنويري الحديث رغم إعلان انتسابه إلى المرجعيَّة الإسلاميّة، فذلك لأن «فلسفة التنوير لم تتخذ موقفًا سلبيًّا من الدين بشكل عام، بل من الخُرافة ومُروّجيها تحديدًا. ودار صراع مديد في تحديد حجم الخرافات القائمة في الديانات، وتدرّج الديانات بموجب ذلك»22. لقد اقترن مفهوم العقل عند عبده بمضامين محدّدة، وهي الأخذ بمنطق السببيّة والعلّية، في مفهومه الحديث، وترك المنطق الخرافي والخوارقي الأسطوري والسحري. هذا ما تفصح عنه سرديّة الإسلام كما «يرويها» لخصمه العلماني، فهذا الدين «لم يعوّل إلا على تنبيه العقل البشري وتوجيهه إلى النظر في الكون واستعمال القياس الصحيح والرجوع إلى ما حواه الكون من النظام والترتيب، وتعاقد الأسباب والمسببات ليصل بذلك إلى أن للكون صانعًا واجب الوجود عالمًا حكيمًا قادرًا، وأنَّ ذلك الصانع واحد لوحدة النظام في الأكوان، وأطلق للعقل البشري أن يجري في سبيله الذي سنتّه له الفطرة بدون تقييد»23. ويتابع عبده مخاطبة خصمه العلماني قائلًا إنَّ الإسلام «لا يدهشك بخارق للعادة ولا يغشى بصرك بأطوار غير معتادة، ولا يخرس لسانك بقارعة سماوية، ولا يقطع حركة فكرك بصيحة إلهيّة»24. وإذا كان الإسلام دين العقل بهذا المعنى العقلاني الحديث فهو بالتبعيَّة دين العلم الذي هو ثمرة هذه العقلانية، «وحديث (اطلبوا العلم ولو في الصين) إن كان في سند لفظه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم مقال فسند معناه متواتر. فإنه سند القرآن نفسه، فإن الله يفضّل العلم وأهل العلم بدون قيد ولا تخصيص. فالمسلم مطالب بطلب العلم ولو في الصين، ولو لم يكن في الصين مسلم على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم»25.

في هذا المستوى بالذات سيتضخّم الجانب التمجيدي في سرديّة عبده وهو يتوسّع في الحديث عن الحضارة العربيّة الإسلاميّة زمن ازدهارها، وكيف أن العلوم «صارت عند العرب حياة الآداب، وغذاء الأرواح، وروح الثروة وقيام الصنة»26. ولكنَّ الجانب التمجيدي في هذه السرديّة سوف لن يتوقّف عند هذا الحدّ، بل سيمتدّ إلى العنصر الأهمّ فيه المتمثّل في القول إن «الفضل في إخراج أوروبا من ظلمة الجهل إلى ضياء العلم، وفي تعليمها كيف تنظر وكيف تفكر في معرفتها أنَّ التّجربة والمشاهدة هما الأصلان اللذان يبني عليهما العلم إنما هو للمسلمين وآدابهم ومعارفهم التي حملوها إليهم وأدخلوها من إسبانيا وجنوب إيطاليا وفرنسا عليهم»27. ويتابع عبده هذا السرد إلى نهايته «المنطقية» التي تقول: «أخذت أمم أوروبا تفْتَكّ من أسرارها وتصلح من شؤونها حتى استقامت أمور الدنيا على مثل ما دعا إليه الإسلام، غافلة عن قائدها، لاهيّة عن مرشدها، وتقرّرت أصول المدنيّة الحاضرة التي تفاخر بها الأجيال المتأخرة من سبقها من أهل الأزمان الغابرة»28.

على هذا النحو يحاجج عبده الخطاب العلماني من منطلق التسليم له بمقولة أنَّ العقل والعلم من أساسيّات نهوض الشعوب وتقدمها، ولكن بدون التسليم له بأنهما بديل عن الدين وبأن سيادتها تكون على حساب مكانته في مطلق الأحوال. فهذا إنْ صحّ في حالات الشعوب المسيحيّة، فذلك لأنه من طبيعة هذا الدين أنه «يخاطب العواطف ويناجي المراحم ويستعطف الأهواء ويحادث خطرات القلوب». ومن ثمة فإن هذا الأمر لا يصحّ في حالة المجتمعات الإسلاميّة، لأن طبيعة الإسلام تختلف جذريا عن طبيعة المسيحيّة في هذا الباب، فهو «جاء يخاطب العقل ويستصرخ الفهم واللب». والمسلك ذاته يعتمده عبده في ردّه على دعوة أنطون إلى وجوب فصل السلطة السياسيّة عن الدين في البلدان العربيّة، بحيث تكون مدنيّة صرفة على شاكلة ما حدث في البلدان الأوروبيّة، إذ هو يُساير، ضمنيا على الأقل، المنطق الذي تقوم عليه هذه الدعوة والذي يقول بمضار السلطة التي تقوم باسم الدين وتنتصب وصيّة على عقائد الناس وضمائرهم.

إنَّ عبده يبطل دعوة خصمه العلماني إلى فصل الإسلام عن السلطة السياسة، لا من جهة دفاعه عن سلطة تقوم باسم الإسلام، بل من جهة القول بأن الإسلام بطبيعته، وخلافا للمسيحيّة، لا يؤسّس أصلا لمثل هاته السلطة، بل الأكثر من هذا، هو قد «هدم بناء تلك السلطة ومحا أثرها حتى لم يبق لها عند الجمهور من أهله اسم ولا رسم. لم يدع الإسلام لأحد بعد الله ورسوله سلطانًا على عقيدة أحد ولا سيطرة على إيمانه على أنَّ الرسول عليه السلام كان مُبلّغا ومذكّرًا لا مهيمنًا ولا مسيطرًا»29. في سياق هذه العمليّة التأويليّة التي يحاول عبده من خلالها رسم خطوط تباين واضحة بين الإسلام والمسيحيّة في مسألة السلطة الدينيّة، نراه يسعى كذلك إلى إعادة تأويل مفهوم السلطة السياسيّة، سلطة الخليفة أو الحاكم السياسيّ بصورة عامة، بحيث يضفي عليها الطابع المدني بالمفهوم الحديث ويجرّدها من أي مضمون وصائي. فهو من جهة أولى يحاول أن ينفي عن الخليفة الصفة الدينيّة، أو بالأدق يحاول قدر المستطاع التخفيف منها، بقوله إنَّ «الخليفة عند المسلمين ليس بالمعصوم، ولا هو مهبط الوحي ولا من حقّه الاستئثار بتفسير الكتاب والسنة»30. وهو من جهة ثانيّة يحاول أن يجترح مكانة ما لـ«سلطة الأمة» باعتبارها سلطة فوق سلطة الخليفة، قائلًا: «فالأمة أو نائب الأمة هو الذي ينصبه والأمة هي صاحبة الحق في السيطرة عليه وهي التي تخلعه متى رأت ذلك من مصلحتها، فهو حاكم مدني من جميع الوجوه»31.

صحيح أننا لا يمكن أن نغض الطرف عن الطابع التمجيدي الذي يسم خطاب عبده السجالي هذا والذي توّلد عن الهاجس الدفاعي عن الإسلام من جهة كونه هويّة جماعيَّة فاعلة. ولكن في مقابل ذلك لا يمكن أن نتجاهل أن عبده كان منسجم الخطاب في هذه المرحلة. فإذا تأملنا ما نُسب إليه من دروس تفسيريّة ألقاها في أواخر أيامه نرى أن النزوعات العقلانيّة والتحرّريّة التنويريّة فيها لا تقلّ جلاءً عمّا حوته ردوده المباشرة على فرح أنطون. ففي تفسير عبده لقصة الخلق [البقرة: 30]، تظهر النزعة العقلانيّة المباينة للإغراق في العجائبيّة والغرائبيّة والخوارقية. فنراه يجنح إلى تحويل الوقائع الحكائيّة في الآيّة إلى مقولات عقليّة مجرّدة، قائلا: «لا يُستبعد أن تكون الإشارة في الآيّة أن الله تعالى لما خلق الأرض، ودبرها بما شاء من القوى الروحانيّة التي بها قوامها ونظامها، وجعل كل صنف من القوى مخصوصًا بنوع من أنواع المخلوقات (…) خلق بعد ذلك الإنسان، وأعطاه قوة يكون بها مستعدًا للتصرف بجميع هذه القوى وتسخيرها في عمارة الأرض، وعبَّر عن تسخير هذه القُوَى بالسجود الذى يُفيد معنى الخضوع والتسخير (…) واستثنى من هذه القُوَى قوة واحدة، عبَّر عنها بإبليس، وهى القوى التي (…) تنازع الإنسان في صرف قواه إلى المنافع والمصالح التي تتم بها خلافته»32.

تتوفّر الدروس التفسيريّة المنسوبة إلى عبده على نزوع واضح في اتجاه تأويل المضمون الاعتقادي المركزي في الإسلام، أي التوحيد، بمضامين عقلانية، كما تتوفّر على نزوع مماثل في ترتيب مواقف تحرّريّة على تلك المضامين العقلانيّة تجعل المسلم الفرد غير خاضع، في فهمه لدينه، لأي شكل من أشكال الوصايّة أو السلطة البشرية. يقول عبده في تفسيره للآيّة 170 من سورة البقرة: «والفحشاء في الغالب أقبح وأشد من السوء، وأسوأ السوء -مبدأ وعاقبة- ترك الأسباب الطبيعيَّة التي قضت حكمة الباري بربط المسببات بها اعتمادًا على أشخاص من الموتى أو الأحياء يظن بل يتوهم أنّ لهم نصيبًا من السلطة الغيبيّة والتصرف في الأكوان بدون اتخاذ الأسباب، ومثله اتخاذ رؤساء في الدين يؤخذ بقولهم ويعتمد على فعلهم، من غير أن يكون بيانًا وتبليغًا لما جاء عن الله ورسوله، فإنَّ في هذين النوعين من السوء إهمالًا لنعمة العقل وكفرًا بالمنعم بها، وإعراضًا عن سنن الله تعالى وجهلًا باطرادها (...) وأمَّا الرؤساء الذين يحملون العامة على هذا التقليد في الأمرين فقد بين تعالى اتباعهم لوحي الشيطان»33.

على هذا النحو، إن سرديّة عبده، بمثل هذه الدلالات التأويليّة الجديدة، تفتح، على الأقل، على عنصر من عناصر الأفق التنويري الذي تشوّف إليه إيمانويل كانط والذي فيه «يقدر الناس، في مجموعهم، أو تتاح لهم القدرة لا غير على استعمال عقولهم بثبات وإحكام في أمور الدين دون إرشاد الغير»34.

ثالثًا. بين مفارقة السرديّة ومفارقات التحوّلات الفكريّة في النصف الأول من القرن العشرين:
التطوّر وعوامل الانتكاس

هكذا أعاد محمد عبده تأويل الإسلام وبناء هويته بناءً سرديًّا، على هذا النحو، تحت ضغط لحظة سجاليّة بدا فيها الخطاب العلماني الوليد في الفكر العربيّ مهدّدا لمكانة الإسلام من حيث كونه هويّة جامعة ومرجعيَّة لسياسات الشؤون العامة والخاصة في المجتمعات العربيّة والإسلاميّة. على هذا الأساس نقدّر أن الحيثيات الموضوعيَّة التي حفّت بهذه اللحظة السجاليّة في الفكر العربيّ المعاصر جعلت خطاب هذه السرديّة ينشأ موسومًا بمفارقة هيكليّة بين طبيعة دوافعه وطبيعة مراميه الدفاعيَّة الهوياتيّة التمجيديّة من جهة، وطبيعة ما يريد أن يؤسس له من أفكار وقيم ذات مضامين كونيّة وإنسانيّة ونقديّة من جهة ثانية35. ونرى أنَّ هذه المفارقة تُمكّننا من فهم طبيعة المفارقات التي وسمت التحوّلات الفكريّة التي عرفها الفكر العربيّ، وخاصة في مصر، في النصف الأول من القرن العشرين، ومن فهم مصائر هذه السرديّة التنويرية.

بدت لنا هذه التحوّلات، في قراءة من قراءاتها الممكنة على الأقل، كأنها انعكاس لانحلال تلك المفارقة الهيكليّة التي وسمت سرديّة عبده ذات النزوعات التنويريّة وانفصال عنصريها المفارقين عن بعضهما. فإذا كان البعض من تلاميذ عبده حاول أن يحتفظ بالمضامين التنويريّة وأن يذهب بها إلى مداها الأقصى مترجمًا إياها في دعواتٍ تحرّريّةٍ عمليّةٍ بعيدًا عن مفترضات الهاجس الهوياتي التمجيدي، فإنَّ الخط الذي نحاه محمد رشيد رضا بعد وفاة أستاذه وتطوّر مع حسن البنا ومختلف منظري الإسلام السياسيّ بعده قد عمّق المنطق الهوياتي الدفاعي التمجيدي في سرديّة عبده مصفيا كل المضامين الاجتهاديّة التنويريّة التي التبست به وعائدًا القهقرة إلى محاضن الأفكار السلفيّة والأصوليّة المُنغلقة والمتعصّبة.

عرفت الساحة الفكريّة العربيّة، وخاصة الساحة المصرية، على مدار النصف الأول من القرن العشرين، بروز أفكار ومواقف سياسيّة واجتماعيَّة ذات مضامين تحرّرية. وكان هذا البروز أمرًا طبيعيا حسب رأينا، باعتبار أن التحرّريّة الفكريّة والمعرفيّة تقود بالضرورة إلى التحرّريّة الاجتماعيَّة والسياسيّة. وهذا ما دللت عليه تجربة التنوير الأوروبيّة التي حرّضت على نبذ التقليد والتفكير الفردي الحرّ والنقدي، فكان أن «لاختيار موقف معرفي من هذا القبيل نتائج سياسيّة بديهية، ذلك أن الشعب يتكوّن من أشخاص، وإذا بدأ بعض الأشخاص يفكّرون بطريقة مستقلة، فإن الشعب برمّته سيرغب في تقرير مصيره بنفسه»36

وكلها تبدو، في تقديرنا، ثمارًا عمليّة للمضامين التنويريّة في هذه السرديّة الجديدة للإسلام التي قدّ معالمها محمد عبده. بدأت الدعوات التحرّريّة العمليّة التي تستمدّ مقدماتها النظريّة من هذه السرديّة تظهر في كتابات تزامنتْ مع كتابات عبده، ونخصّ بالذكر كتابات تلميذه وصديقه قاسم أمين التي جاءت بدعوة جريئة لتحرير المرأة المصرية، والمرأة المسلمة بصورة عامة.

وبصرف النظر عن دقة الشهادات التاريخيّة التي تفيد أن عبده قد أسهم في بعض ما هو منسوب إلى أمين من كتابات37، فإنَّ أمين يعتمد في دعوته إلى تحرير المرأة المسلمة على مقدمات تُترجم، في تقدرينا، عناصر أساسيّة في سرديّة عبده. ففي مقدمة كتاب تحرير المرأة نراه يتساءل بصيغة إنكارية: «أيقدر المسلم على مخالفة سنة الله في خلقه إذ جعل التغيير شرط الحياة والتقدم والوقفة والجمود مقترنين بالموت والتأخر؟ أليست العادة عبارة عن اصطلاح الأمة على سلوك طريق خاص في معيشهم ومعاملاتهم حسبما يناسب الزمان والمكان؟ ومن ذا الذي يمكنه أن يتصور أن العوائد لا تتغير بعد أن يعلم أنها ثمرة من ثمرات عقل الإنسان وأن عقل الإنسان يختلف باختلاف الأماكن والأزمان؟»38. مثل هذه التساؤلات التي سيؤسّس عليها أمين دعوته التحرّريّة لا يمكن أن تصدر عن غير أفقٍ تأويليٍّ يُشاكل سرديّة عبده التي تقول بأن الإسلام «أطلق للعقل البشري أن يجري في سبيله الذي سنتّه له الفطرة».

وفي كتاب المرأة الجديدة الذي أصدره قاسم أمين بعد كتاب تحرير المرأة، واتخذ فيه مواقف أكثر تحرريّة وأكثر جرأة في تحدي مقرّرات الفقه الإسلاميّ التقليدي، تتجلّى لنا مفترضات تأويل محمد عبده للإسلام وسرديته ذات النزوعات التنويرية. فأمين يُحاجج خصومه من المسلمين التقليدين بنفس ما يُحاجج به عبده خصومه من المسيحيّين العلمانيين، وذلك بالقول إن «نسبة تأخر المسلمين في المدنيّة إلى الدين الإسلاميّ هو خطأ محض. من ذا الذي يقول إن الدين الإسلاميّ الذي يخاطب العقل ويحث على العمل والسعي يكون هو المانع من تحرّر المسلمين؟ وقد برهن المسلمون أن دينهم من أقوى عوامل الترقي في المدنية»39. بيد أن اللافت كون أمين، إذ يجعل، على طريقة أستاذه وصديقه، المدنيّة والعقلانيّة الحديثتين من «أصول» الإسلام، فإنّه لا يعتمدهما مجرّدين عن نتائجها العمليّة التحرّرية. فمنذ أولى سطور الكتاب يرسم أمين صورة «المرأة الجديدة» -المرأة المتحرّرة المتساويّة مع الرجل- التي يدعو إلى تكريسها في المجتمع المصري من جهة أنها «ثمرة من ثمرات التمدّن الحديث، بدأ ظهورها في الغرب على أثر الاكتشافات التي خلّصت العقل الإنسانيّ من سلطة الأوهام والظنون والخرافات، وسلّمته قيادة نفسه، ورسمت له الطريق التي يجب أن يسلكها»40.

وبعد عقدين من وفاة محمد عبده عرفت الساحة الفكريّة المصريّة بروز دعوة هامة أخرى تشاكل دعوة قاسم في مضمونها التحرّري العملي الجريء، لكن هذه المرة في مجال السياسة ونظام الحكم. إنَّها دعوة الشيخ الأزهري علي عبد الرازق للتحرّر من النظام السياسيّ الخلافي، باعتبار أنَّه «لا شيء في الدين يمنع المسلمين أن يُسابقوا الأمم الأخرى في علوم الاجتماع والسياسة، وأن يهدموا ذاك النظام العتيق الذي ذلّوا له واستكانوا إليه وأن يبنوا قواعد ملكهم، ونظام حكومتهم، على أحدث ما أنتجت العقول البشرية، وأمتن ما دلّت عليه تجارب الأمم على أنه خير أصول الحكم»41.

وتبدو لنا أهمّ مقدمات هذه الدعوة التحرّريّة السياسيّة عند عبد الرازق، شأنها شأن دعوة قاسم أمين التحرّريّة الاجتماعيَّة، ذات صلة قويّة ببعض المعالم التنويريّة في السرديّة الجديدة التي نسجها عبده حول الإسلام. ففي تقديرنا، يصدر عبد الرازق، بصورة موضوعيَّة، وعى ذلك أو لم يع، مما قرّره عبده من أن الإسلام لا يعترف بالسلطة الدينيّة42 وأنه «لم يدع لأحد بعد الله ورسوله سلطانا على عقيدة أحد»، ويسير به إلى نتيجته المنطقيّة التي يؤسّس عليها دعوته التحرّريّة والتي مؤداها «أنَّ الدين الإسلاميّ بريء من تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون، وبريء من كلِّ ما هيأوا حولها من رغبة ورهبة، ومن عزّ وقوة. والخلافة ليست في شيء من الخطط الدينيّة، كلاّ ولا القضاء ولا غيرهما من وظائف الحكم ومراكز الدولة، وإنَّها تلك خطط سياسيّة صرفة، لا شأن للدين بها»43.

وفي العقد الثالث من القرن العشرين لم تختف في الساحة الفكريّة المصريّة الأفكار والمواقف الفكريّة التي تمثّل امتدادًا لهذه التزعة التي تُحاول أن تستنبت الدعوات التحرّريّة السياسيّة والاجتماعيَّة من داخل الإسلام نفسه وفي الأفق العملي للسرديّة التي قدّم معالمها محمد عبده. ونذكر في هذا الصدد كتابات محمد حسين هيكل التي جمعت بين الأفكار الاشتراكيّة باعتبارها عنوان التحرّر الاجتماعيّ والأفكار الديمقراطيّة الليبراليّة من جهة كونها عنوان التحرّر السياسيّ44. كما نذكر كذلك مجهودات أمين الخولي، أستاذ الآداب العربيّة بجامعة القاهرة، الذي حاول أن يتابع نهج عبده في تفسير المنار عبر منهج المقاربة الأدبيّة للنص القرآني. والخولي «كان حريصًا أن يبرز لتلاميذه صورة الإسلام المشرقة، والتي تكشف عن البعد العقلاني المدني له، وكان ينصحهم بضرورة الأخذ بالأسباب، والعمل، لأن النظام السببي هو ناموس الكون»45.

في السنوات الأخيرة من منتصف القرن العشرين ظهرتْ أبرز ثمار مدرسة أمين الخولي التجديديّة مجسّمة في أطروحة أشرف عليها وأنجزها طالبه محمد أحمد خلف الله حول الفن القصصي في القرآن الكريم. وقد ذهبت هذه الأطروحة إلى مدى قصي في عقلنة إيمان المسلم المعاصر وتجريده من اعتقادات بات العقل الحديث يعدّها من الأساطير والخرافات، وفي هذا تجسيد عملي لإحدى مقولات سرديّة عبده التي تنصّ على أن الإسلام «لا يدهشك بخارق للعادة ولا يغشى بصرك بأطوار غير معتادة»46. فلقد ذهب خلف الله إلى أن «القرآن يجري… في فنّه البياني على أساس ما كانت تعتقد العرب وتتخيّل ـ لا على ما هو الحقيقة العقليّة ولا على ما هو الواقع العملي»47. على هذا الأساس ينتهي خلف الله إلى أنه «أصبح العقل الإسلاميّ غير ملزم بالإيمان برأي معيّن في هذه الأخبار التاريخيّة الواردة في القصص القرآني، وذلك لأنَّها لم تبلّغ على أنَّها دين يُتّبع، وإنما بُلّغت على أنَّها المواعظ والحكم والأمثال التي تضرب للناس. ومن هنا يصبح من حقّ العقل البشري أن يهمل هذه الأخبار»48.

وخلال الفترة ذاتها شهدت الساحة المصريّة ضجة كبرى أحدثها ظهور عالم أزهري «مارق» آخر، بعد علي عبد الرازق، هو خالد محمد خالد الذي أصدر كتاب بعنوان من هنا نبدأ يقول في شأنه إنه «يرسم الخطوط العريضة لنحوّل اجتماعيّ وديع يفضي إلى قوميّة شاملة لا تنافر فيها. وإلى اشتراكيّة عادلة لا استغلال ولا ظلم فيها… وإلى وعي ناضج سليم لا سلطان للرجعيَّة ولا للكهانة عليه»49. دعا خالد إلى أن يكون الحكم قوميًّا لا دينيًّا وإلى رفض السلطة الدينيّة وذلك عبر «عزل الكهانة وتنقيّة الدين من شوائبها، حتى يظل ولاء الناس له وإعجابهم به»50. كما دعا إلى تمكين المرأة المصريّة من جميع «الحقوق الإنسانيّة والسياسيّة» على حدّ تعبيره.

معلوم أن طروحات محمد عبده لم تلق معارضة تذكر زمن ظهورها. قد يرجع ذلك إلى منزلته في عصره باعتباره شيخ الأزهر، ولكن قد يرجع أيضا إلى أنَّها كانت مجرّدة عن نتائجها التحرّريّة المنطقية، فالأفكار الاجتماعيَّة -حول المرأة خاصة- والسياسيّة، التي صاغها في تفسير المنار لم تكن جريئة بحيث تصدم المنظومة الفقهيّة وأحكامها التقليديّة المحافظة. وبخلاف ذلك، فإن الدعوات التحرّريّة التي قامت على مقدمات سرديّة عبده وتأويله الجديد للإسلام قد جوبهت بردود عنيفة من قبل القوى الدينيّة التقليديّة المحافظة، وقد طالت هذه الردود بالخصوص قاسم أمين وعلي عبد الرازق. غير أنه، ومع ظهور أطروحة محمد أحمد خلف الله الفن القصصي في القرآن الكريم وكتاب خالد محمد خالد من هنا نبدأ، سيظهر دور الإسلام السياسيّ وخطابه الناشئ زمن ذاك في مواجهة الدعوات التحرّريّة التي تمثّل امتدادًا موضوعيًّا للسرديّة الإصلاحيّة الإسلاميّة ذات النزوعات التنويرية. إذ سيكون إعلام جماعة الإخوان المسلمين مساهمًا فاعلًا في التحريض على أطروحة خلف الله ومباركة عدم إجازتها. وسينهض أحد رموز الجماعة، وهو محمد الغزالي، للردّ على خالد محمد خالد بكتاب مضاد وسمه بـ: من هنا نعلم.

يؤشر كتاب الغزالي هذا إلى الخطاب الإخواني الصاعد من حيث هو خطاب مضاد للقيم والمبادئ التحرّريّة التنويريّة والدعوات التي تترجمه. فهو يشير إلى هذه الدعوات بوضوح حين يتحدّث عن أن «القافلة قد بدأت سيرها الغلط من سنين عديدة. ولم تكن في انتظار خالد لتهيم على وجهها في تلك المتاهة التي ينكرها الإسلام»51. كما يكشف الغزالي كذلك عن حقيقة كون الإسلام السياسيّ، من حيث هو قوة صاعدة زمن ذاك، يحاول أن ينازع العلماء التقليديين على النهوض بهذه المهمّة والمزايدة عليهم في إطار تسجيل النقاط في الصراع الدائر بين الطرفين52. يقول الغزالي: «إن الأزهر لم يبدأ حربه ضدّ هذه الحركة إلا مؤخرًا، بعد ما شعر رجاله بالأخطار الهائلة التي تهدّد الإسلام في صميمه. ونخشى أن يكونوا قد جاءوا بعد قيام القطار. لقد تركوا الشيطان يلقي غراسه في الأرض ويتعهّد نماءها، فلما بدأت الثمار السامّة تغصّ بها الحلوق وتتقزّز منها النفوس تعالت صراخات الألم»53.

يفصح كتاب الغزالي بوضوح عن مشروع ضدّ تحرّري مثّله خطاب الإسلام السياسيّ الناشئ، في بعده السياسيّ كما في بعده الاجتماعيّ. فهو مشروع في دولة الوصايّة الدينيّة التي تؤدي «وظيفة السهر في الداخل والخارج على حراسة العقيدة، والإعلان عنها، والتبشير بها، وتحقيق أنظمتها وإنفاذ أحكامها، والإشراف العام على شؤون أتباعها»54. وهو كذلك مشروع في المحافظة على البنى والعلاقات الاجتماعيَّة التقليديّة التراتبية، من خلال التصدّي لدعوة تحرير المرأة ومساواتها مع الرجل في الحقوق، كما في الواجبات، يقول الغزالي مستنكرًا: «لماذا لا تكرّس المرأة جهودها وتسخّر مواهبها لتجعل من نفسها ظهير الرجل وعونه، وأن تقف في الصف الثاني بدلا من مزاحمة الرجال في الصف الأول؟»55.

تمثّل هذه المواقف الضد تحرّريّة التي يعبّر عنها محمد الغزالي المخرجات العمليّة لسرديّة الخطاب الإخواني الناشئ في الثلث الثاني من القرن العشرين. وهي سرديّة يمكن قراءتها، في تقديرنا، من جهة أنَّها مثّلت حلاّ لمفارقة السرديّة الإصلاحيّة التي تجسّدت في خطاب محمد عبده. وهو الحلّ الذي ذهب في الاتجاه المعاكس الذي انخرطت فيه الدعوات التحرّرية، أي في اتجاه الاحتفاظ بالبعد الهوياتي الدفاعي التمجيدي في فكر عبده والانقلاب تماما على كل المضامين الاجتهاديّة التنويريّة التي التبست به والعودة إلى محاضن الأفكار السلفيّة والأصوليّة المنغلقة والمتعصّبة. فلقد قام خطاب الإخوان المسلمين على الهاجس عينه الذي قام عليه الخطاب الإسلاميّ، أي الدفاع عن الإسلام باعتباره هويّة جماعيَّة. لذلك نراه يحتفظ بقوة بالشطر التمجيدي من سرديّة عبده. وهذا ما نظفر به بوضوح في رسائل حسن البنا مؤسّس الجماعة، حين نقرأ فيها: «إن الأمم الأوروبيّة التي اتصلت بالإسلام وشعوبه في الشرق بالحروب الصليبيّة، وفي الغرب بمجاورة عرب الأندلس وخالطتهم، ولم تستفد من هذا الاتصال مجرد الشعور القوي أو التجمع والتوحد السياسيّ، ولكنَّها أفادت إلى جانب ذلك يقظة ذهنيّة وعقليّة كبيرة واكتسبت علومًا ومعارف جمة، وظهرت فيها نهضة أدبيّة وعلميّة واسعة النطاق»56.

وإذا كانت سرديّة البنّا تساير سرديّة عبده إلى حدود هذا المستوى، مستوى تمجيد حضارة الإسلام التي علّمت حضارة أوروبا أصول علمها الحديث، فإنَّها ستفترق عنها، افتراق النقيضين، بعد ذلك. فإذا كانت سرديّة عبده أخبرتنا بأن شؤون الشعوب الأوروبيّة «استقامتْ دُنياها على مثل ما دعا إليه الإسلام»، كما مرّ بنا، فإن سرديّة البنّا «تحكي» لنا كيف «أقبلت الدنيا على هذه الأمم الأوروبيّة وجبيت إليها ثمرات كل شيء، وتدفقت عليها الأموال من كل مكان، فكان طبيعيا بعد ذلك أن تقوم الحياة الأوروبيّة والحضارة الأوروبيّة على قاعدة إقصاء الدين عن مظاهر الحياة الاجتماعيَّة وبخاصة الدولة والمحكمة والمدرسة وطغيان النظريّة الماديّة وجعلها المقياس في كل شيء… وتبعا لذلك صارت مظاهر هذه الحضارة مظاهر ماديّة بحتة تهدم ما جاءت به الأديان السماويّة، وتناقض كل المناقضة تلك الأصول التي قررها الإسلام الحنيف»57.

إنَّ سرديّة البنّا، إذ تنقض سرديّة عبده في توصيف مآلات علاقة التحديث الأوروبي بالإسلام، فإنَّ ما تنقضه، في حقيقة الأمر، هو قاعدة التشخيص مظاهر الخلل وعواملها في المجتمعات الإسلاميّة. وإذا كان هذا كان هذا التشخيص سيتّخذ، في الحالتين، عنوان الابتعاد عن الإسلام وأصوله، فإن هذا «الابتعاد» سيُشحن بدلالات مختلفة، بل ومتناقضة. فالابتعاد عن الإسلام كما تقود إليه سرديّة عبده يفيد أنه «قد انتشر بين المسلمين جيش من المضلين، وتعاون ولاة الشرّ على مساعدتهم في جميع الأطراف، واتخذوا من عقيدة القدر مثبطًا للعزائم، وغلًا للأيدي عن العمل، والعامل الأقوى في حمل النفوس على قبول الخرافات إنما هو السذاجة، وضعف البصيرة في الدين، وموافقة الهوى، أمور إذا اجتمعت أهلكت، فاستتر الحقّ تحت ظلام الباطل، ورسخ في نفوس الناس من العقائد ما يضرب أصول دينهم وبيانه»58. أمَّا الابتعاد عن الإسلام كما تقود إليه سرديّة البنّا فيفيد أن الأمم الشرقيّة «مصابه في ناحيتها السياسيّة بالاستعمار من جانب أعدائها، والحزبيّة والخصومة والفرقة والشتات من جانب أبنائها، وفي ناحيتها الاقتصاديّة بانتشار الربا بين كل طبقاتها واستيلاء الشركات الأجنبيّة على مواردها وخيراتها، وهي مصابة من الناحيّة الفكريّة بالفوضى والمروق والإلحاد يهدم عقائدها ويحطم المثل العليا في نفوس أبنائها، وفي ناحيتها الاجتماعيَّة بالإباحيّة في عاداتها وأخلاقها والتحلل من عقدة الفضائل ورثتها عن الغر الميامين من أسلافها وبالتقليد الغربي يسري في مناحي حياتها سريان لعاب الأفاعي فيسمم دمائها ويعكر صفو هنائها وبالقوانين الوضعيَّة التي لا تزجر مجرمًا ولا تؤدب معتديًا ولا ترد ظالمًا، ولا تغني يومًا من الأيام غناء القوانين السماويّة التي وضعها خالق الخلق ومالك الملك ورب النفوس وبارئها»59.

بمجرّد تجاوز المستوى التمجيدي تفترق السرديّة الإخوانيّة عن السرديّة الإصلاحيّة وتتجّه إلى تكريس قيم ومبادئ نقيضة تمامًا تتجسّد خاصة في مضامين الوصايّة والسلطويّة الدينيّة. فبقدر ما كانت سرديّة عبده ذات مضامين تحرّريّة إلى حد القول إن «الإسلام لم يدع لأحد بعد الله ورسوله سلطانًا على عقيدة أحد ولا سيطرة على إيمانه» كما مرّ بنا، كانت سرديّة البنّا ذات مضامين وصائيّة إلى حدّ القول إنَّ «القرآن الكريم يقيم المسلمين أوصياء على البشريّة القاصرة ويعطيهم حق الهيمنة والسيادة على الدنيا لخدمة هذه الوصايّة النبيلة»60. وهذه المهمّة الوصائيّة لن تتجسّد، بطبيعة الحال، إلا بواسطة «الحكومة المسلمة التي تقود الشعب إلى المجد وتحمل به الناس على هدى الإسلام من بعد كما حملتهم على ذلك بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر وعمر من قبل»61.

قائمة المراجع

الأفغاني، جمال الدين. «رسالة الرد الدهريين». في: محمد عبده. الثائر الإسلاميّ جمال الدين الأفغاني ورسالة الرد على الدهريين. سلسلة كتاب الهلال. [د.م.]، دار الهلال، 1972.

أمين، قاسم. المرأة الجديدة. تونس: دار العربيّة للكتاب، 1991.

________. تحرير المرأة. سوسة: دار المعارف، 1990.

أنطون، فرح. ابن رشد وفلسفته. تقديم طيّب تيزيني. بيروت: دار الفارابي، 1988.

بشارة، عزمي. الدين والعلمانيّة في سياق تاريخيّ. الجزء الثاني/ المجلد الأول. العلمانيّة والعلمنة: الصيرورة الفكرية. الدوحة، بيروت: المركز العربيّ للأبحاث ودراسات السياسات، 2015.

البنّا، حسن. مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنّا. القاهرة: المكتبة الوقفية، [د.ت.].

بيرنشتاين، ج. م. «المرويات الكبرى». في: دفيد وورد (محرر). الوجود والزمان والسرد فلسفة بول ريكور. ترجمة سعيد الغانمي. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربيّ، 1999، ص 129-158.

تودوروف، تزفيتان. روح الأنوار. ترجمة حافظ قويعة. صفاقس: دار محمد علي الحامي، 2007.

خالد، خالد محمد. من هنا نبدأ. بيروت: دار الكتاب العربيّ، 1974.

خلف الله، محمد أحمد. الفن القصصي في القرآن الكريم. القاهرة، مكتبة الانجلو مصرية، 1965.

________. مفاهيم قرآنية. سلسلة عالم المعرفة 79. الكويت: المجلس الوطني للثقافة والآداب والفنون، 1981.

رضا، محمد رشيد. تفسير القرآن الحكيم المشهور بتفسير المنار. بيروت: دار الكتب العلمية، 1999.

سالم، أحمد محمد. الإسلام العقلاني تجديد الفكر الدينيّ عند أمين الخولي. القاهرة: رويّة للنشر والتوزيع، 2009.

الشميّل، شبلي. فلسفة النشوء والارتقاء. بيروت: دار مارون عبّود، 1973.

________. الجزء الثاني من مجموعة الدكتور شبلي شميّل. [القاهرة]: مطبعة المعارف، 1908.

عبد الرازق، علي. الإسلام وأصول الحكم دراسة ووثائق. بيروت: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر، 1972.

عبده، محمد. الإسلام دين العلم والمدنية. تحقيق عاطف العراقي. القاهرة: دار قباء، 1998.

________. رسالة التوحيد للإمام الشيخ محمد عبده. القاهرة: دار الشروق، 1994.

الغزالي، محمد. من هنا نعلم. القاهرة: نهضة مصر، 2005.

كانط، أمانويل. ثلاثة نصوص: تأملات في التربية-ما هي الأنوار؟-ما التوجه في التفكير؟. ترجمة وتعليق محمود بن جماعة. صفاقس: دار محمد علي الحامي، 2005.

هيكل، محمد حسين. الحكومة الإسلاميّة. القاهرة، دار المعارف، [د.ت.].

Michel, Johann. “Narrativité, narration, narratologie : du concept ricœurien d’identité narrative aux sciences sociales.” Revue européenne des sciences sociales. vol. 41, no. 125 (2003), p. 125-142.


1 ج. م. بيرنشتاين، «المرويات الكبرى»، في: دفيد وورد (محرر)، الوجود والزمان والسرد فلسفة بول ريكور، ترجمة سعيد الغانمي (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربيّ، 1999)، ص 129-158، ص 143-144.

2 Johann Michel, «Narrativité, narration, narratologie : du concept ricœurien d’identité narrative aux sciences sociales,” Revue européenne des sciences sociales, vol. 41, no. 125 (2003), p. 125-142, p. 134.

3 شبلي الشميّل، فلسفة النشوء والارتقاء (بيروت: دار مارون عبّود، 1973)، ص 402.

4 شبلي شميّل، الجزء الثاني من مجموعة الدكتور شبلي شميّل ([القاهرة]: مطبعة المعارف، 1908)، ص 54-55.

5 فرح أنطون، ابن رشد وفلسفته. تقديم: طيّب تيزيني. (بيروت: دار الفارابي، 1988)، ص 214.

6 المرجع نفسه، ص 242

7 شميّل، الجزء الثاني مجموعة الدكتور شبلي شميّل، ص 320.

8 أنطون، ص 210.

9 المرجع نفسه، ص 260

10 سلسلة الردود التي نشرتها مجلة المنار سنة 1902 ثم جمعت في كاتب تحت عنوان الإسلام والنصرانيّة مع العلم والمدنية.

11 نخص بالذات رسالة التوحيد (1897) ودروس التفسير التي ألقاها في الأزهر بين 1900 و1905

12 ألف جمال الدين الأفغاني هذه الرسالة باللغة الفارسيّة حوالي 188 حينما أقام بمدينة حيدر اباد الهندية. وتشير المعطيات التاريخيّة إلى أن محمد عبده قد عرّب هذه الرسالة حوالي سنة 1885 او بعدها بقليل، أي في الفترة التي كان فيها مدرسا في المدرسة السلطانيّة ببيروت. صحيح أن الأفغاني يشير صراحة في متن رسالته إلى أنه كتبها بدافع ما لاحظه من انتشار للأفكار الدهريّة في الهند. لكن ما نرجّحه هو كون عبده ترجمها بدافع ما لا حظه من انتشار للأفكار عينها في سياق العربيّ، وفي السياق البيروتي حيث كان ظهور هذه الرسالة معرّبة في بيروت بعد ظهور كتاب شميّل (1884) بقليل.

13 جمال الدين الأفغاني، «رسالة الرد الدهريين»، في: محمد عبده، الثائر الإسلاميّ جمال الدين الأفغاني ورسالة الرد على الدهريين، سلسلة كتاب الهلال ([د.م.]، دار الهلال، 1972)، ص 120.

14 أنطون، ص 242.

15 أنطون، ص 242.

16 محمد عمارة، رسالة التوحيد للإمام الشيخ محمد عبده (القاهرة: دار الشروق، 1994)، ص 147.

17 المرجع نفسه.

18 المرجع نفسه، ص 148-149.

19 المرجع نفسه، ص 150.

20 المرجع نفسه، ص 19 - 20.

21 المرجع نسه، ص 142.

22 عزمي بشارة، الدين والعلمانيّة في سياق تاريخيّ الجزء الثاني المجلد الأول العلمانيّة والعلمنة: الصيرورة الفكرية، ط 1 (الدوحة بيروت: المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، 2015)، ص 501.

23 محمد عبده، الإسلام دين العلم والمدنية. تحقيق عاطف العراقي (القاهرة: دار قباء، 1998)، ص 127.

24 المرجع نفسه، ص 128.

25 المرجع نفسه، ص 144.

26 المرجع نفسه، ص 153.

27 المرجع نفسه، 154.

28 محمد عبده، رسالة التوحيد للإمام الشيخ محمد عبده، تحقيق محمد عمارة (القاهرة: دار الشروق، 1994) ص 170.

29 عبده، الإسلام دين العلم والمدنية، ص 133.

30 المرجع نفسه، ص 134.

31 المرجع نفسه، ص 135.

32 محمد رشيد رضا، تفسير القرآن الحكيم المشهور بتفسير المنار (بيروت: دار الكتب العلمية، 1999)، ج 1، ص 223.

33 المرجع نفسه، ج 2، ض 71.

34 أمانويل كانط، ثلاثة نصوص: تأملات في التربية-ما هي الأنوار؟-ما التوجه في التفكير؟، ترجمة وتعليق محمود بن جماعة (صفاقس: دار محمد علي الحامي، 2005)، ص 92.

35 قد تكون هذه وجها من الوجوه المفارقة في فكر عبده التي تحدّث عنها المفكر المغربي الكبير عبد الله العروي. انظر كتابه مفهوم العقل.

36 تزفيتان تودوروف، روح الأنوار، ترجمة حافظ قويعة (صفاقس: دار محمد علي الحامي، 2007)، ص 46.

37 «ومما أورده أحمد لطفي السيد في مذكراته أنه اجتمع في جنيف عام1897 بالشيخ محمد عبده وقاسم أمين وسعد زغلول وأن قاسم أمين أخذ يتلو عليه فقرات من كتاب «تحرير المرأة» وصفت بأنها تنم عن أسلوب الشيخ محمد عبد»، يُنظر: علاء صلاح الرفاعي، «قراءة تاريخيّة في فكر قاسم أمين (1) المرحلة الأولى في صحبة الإمام محمد عبده»، مقال كلاود، 6/10/2015، شوهد في: 20/2/2020، على: https://bit.ly/3b426ut

38 قاسم أمين، تحرير المرأة (سوسة: دار المعارف، 1990)، ص 11.

39 قاسم أمين، المرأة الجديدة (تونس: دار العربيّة للكتاب، 1991)، ص 86.

40 المرجع نفسه، ص 11.

41 علي عبد الرازق، الإسلام وأصول الحكم دراسة ووثائق (بيروت: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر، 1972)، ص 182.

42 في خضم السجالات الحادة التي رافقت ظهور كتاب عبد الرازق هناك من رأى أنه «لم يكن سوى امتداد متطوّر للشيخ محمد عبده في الإصلاح الدينيّ، بل إن آراءه في موضوع الخلافة قد كانت في عدد من نقاطها الجوهريّة تفصيلا وبلورة وتطويرًا لآراء الأستاذ الإمام في ذات الموضوع». وقد استشهد أصحاب هذا الرأي بمقاطع عديدة مما ورد في ردود عبده على أنطون. انظر دراسة محمد عمارة في: المرجع نفسه ص 31 وما بعدها.

43 المرجع نفسه، ص 182.

44 انظر في هذا الصدد مجموعة المقالات التي تم جمعها في: محمد حسين هيكل، الحكومة الإسلاميّة (القاهرة، دار المعارف، [د.ت.]).

45 أحمد محمد سالم، الإسلام العقلاني تجديد الفكر الدينيّ عند أمين الخولي (القاهرة: رويّة، 2009)، ص 131

46 ويشير خلف الله بوضوح إلى صلة منهجه في الدراسة الأدبيّة للنص القرآني بمنهج محمد عبده، وذلك عبر وساطة أستاذه المشرف أمين الخولي الذي « كان يقول: إن الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، وضع حجر الأساس لهذه الدراسة عندما ذهب إلى أن القرآن الكريم يجب أن يفهم على الأساس الذى كانت تفهمه عليه العرب وقت نزوله، من حيث فهم الألفاظ اللغويّة والعبارات الأدبية. كنت أسمع هذه الكلمات فتمتلئ نفسى بها، وكنت أشعر شعورًا داخليا قويا بأننى من دون زملائى الراغب فى هذه الدراسة والقادرعليها». محمد احمد خلف الله، مفاهيم قرآنية. سلسلة عالم المعرفة 79 (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والآداب والفنون، 1981 )، ص 8.

47 محمد أحمد خلف الله، الفن القصصي في القرآن الكريم (القاهرة، مكتبة الانجلو مصرية، 1965)، ص 57.

48 المرجع نفسه، ص 45.

49 خالد محمد خالد، من هنا نبدأ (بيروت: دار الكتاب العربيّ، 1974)، ص 45-46.

50 المرجع نفسه، ص 50.

51 محمد الغزالي، من هنا نعلم (القاهرة: نهضة مصر، 2005)، ص 8-9.

52 يشير الغزالي إلى أن أحمد شاكر القاضي بالمحاكم الشرعيَّة قد أصدر فتوى بأن الإخوان المسلمين كفّار، يُنظر: المرجع نفسه، ص 12.

53 المرجع نفسه، ص 114.

54 المرجع نفسه، ص 46.

55 المرجع نفسه، ص 162.

56 حسن البنّا، مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنّا (القاهرة: المكتبة الوقفية، [د.ت.])، ص 161.

57 المرجع نفسه، ص 162.

58 عبده، الإسلام دين العلم والمدنية، ص 167.

59 البنّا، ص 28.

60 المرجع نفسه، ص 37.

61 المرجع نفسه، ص 99.