سؤال الذات والحرية

بين الموروثين العربيّ-الإسلاميّ والغربي

إشكالية التنوير في تمحّلاتها

مراد دياني*

doi:10.17879/mjiphs-2022-3889

يعرض هذا البحث لأحد الأبعاد الرئيسة لسُؤال التنوير في السياق العربيّ الإسلاميّ المُتمثِّل في سُؤال الذاتيّة، بشكلٍ موصول بسؤال الحرية. نسعى في هذه الورقة البحثية إلى تقديم فهم متسق لأسباب غياب الذات الفردية في السياقات العربيّة الإسلاميّة، متوسّلين بفرضيتين بحثيتين؛ تخصّ الفرضية الأولى الارتباط المتصل Continuum بين غياب التنوير، وغياب الحرية، وغياب الذاتيّة الفردية في السياقات العربيّة الإسلاميّة، ماضيًا وحاضرًا؛ وتنفي الفرضية الثانية موجب تغييب الذاتيّة الفردية في الموروث العربيّ الإسلاميّ –على مستوى معياريّ– بغلبة الذات العلوية، لتؤكّد بالأحرى أنها جرت إزاحتها من خلال طغيان الذات الجماعية و «بارادايم الجماعة». ومن ثمّ، أطروحتنا في هذا البحث أنّ الذات الفردية في السياق العربيّ الإسلاميّ ما فتئت تغيب غيابًا قسريًا بفعل سيادة «فقه الغلبة والاستبداد». ومن ثمّ، يظلّ سؤال التنوير مؤجلًا ومرهونًا بالتصدي لأسئلة الذات الفردية واستقلالها عن الأغيار.

كلمات مفتاحية: الذات؛ الحرية؛ التنوير؛ الموروث العربيّ-الإسلاميّ؛ الموروث الغربي

* باحث بالمركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة.

The Question of self and freedom

between the Arab-Islamic and Western traditions

The problematic of enlightenment in its striving

Morad Diani*

The aim of this research is to examine one of the main aspects of the question of enlightenment in the Arab-Islamic context, which is the question of subjectivity, in a way that is related to the question of freedom. I try to provide a consistent understanding of the reasons for the absence of the individual self in Arab-Islamic contexts, based on two hypotheses: The first concerns the continuum link between the absence of enlightenment, the absence of freedom and the absence of individual subjectivity in Arab-Islamic contexts; in the second hypothesis, I emphasize that the absence of individual subjectivity in the Arab-Islamic heritage -at a normative level-, is not caused by the presence of the transcendent, but rather by the strong presence of the collectivism and the «Community Paradigm». Thus, my thesis in this research is that the individual self in the Arab-Islamic context has been forcibly absent due to the rule of «predominance and tyranny». For that, the question of enlightenment remains deferred.

Keywords: Self; Freedom; Enlightenment; Arab-Islamic tradition; Western tradition

* Researcher at the Arab Center for Research and Policy Studies, Doha.

مقدّمة

يعرض هذا البحث لأحد الأبعاد الرئيسة لسؤال التنوير في السياق العربيّ الإسلاميّ المتمثل في سؤال الذاتيّة، بشكلٍ موصول بسؤال الحرية. ذلك أنّ الذات الفردية قد ظلّت شبه مغيّبة على مدى التاريخ العربيّ الإسلاميّ المديد؛ مستلبةً في وعيها بذاتها وجسدها، ومقموعةً في حريتها وفعلها الإرادي. وهي لا تزال إلى اليوم «عقلها مقيد، وحريتها مطوقة، وجسدها ممتهن، وولاؤها موزع بكيفية تراجيدية بين قطبي التراث والمعاصرة»1؛ تعيش أزمةً وجودية مركّبة، مع ذاتها، وفي علاقتها بالمدينة والعمران.

وقد تصدّت العديد من المقاربات لهذه الإشكالية، محاولةً رصد أسباب غياب الذات الفردية في السياقات العربيّة الإسلاميّة أو تحجيمها، نافيةً –في مجملها– أن تكون الذات الفردية قد وجدت لها موطئ قدم في الفكر العربيّ الإسلاميّ الذي لم يطرح –في نظرها– سؤال الذات الإنسانيّة سوى «بقصد التحايل عليها لربطها بالذات المطلقة»2. لتظلّ أغلب هذه الأطروحات، التي تمتح في أغلبها من التنوير الفرنسي وتختزل «الذات» في «الأنا» وتنظر إليها بعدسة «الأنا المفكّرة الديكارتية»، عاجزةً عن تقديم فهمٍ متسق لتغييب الذات الفردية بوصفها الفاعل المركزي في الاجتماع البشري، في الماضي التليد كما في الحاضر المعضل.

نسعى في هذه الورقة البحثية إلى الإسهام في درء بعضٍ من أوجه قصور هذه المقاربات الرائجة لسؤال التنوير من منظور عربيّ إسلاميّ، متوسّلين بفرضيتين بحثيتين؛ تخصّ الفرضية الأولى الارتباط المتصل Continuum بين غياب التنوير، وغياب الحرية، وغياب الذاتيّة الفردية في السياقات العربيّة الإسلاميّة، ماضيًا وحاضرًا؛ وتنفي الفرضية الثانية موجب تغييب الذاتيّة الفردية في الموروث العربيّ الإسلاميّ –على مستوى معياريّ– بغلبة الذات العلوية، لتؤكّد بالأحرى أنها جرت إزاحتها من خلال غلبة الذات الجماعية و«بارادايم الجماعة»، محاججةً –على مستوى وضعي– بدور «فقه الغلبة والاستبداد» وتوظيفه من قبل السلطة الغالبة في تأجيل سؤال الذات الفردية بوصفه صنوًا لتأجيل سؤال الحرية في الآن ذاته.

الفكرة الرئيسة الثاوية وراء هذه الأطروحة أنّ عدم تبلور التنوير في البيئة العربيّة الإسلاميّة المطوّقة من كلّ حدب، والمنغرسة في إبستيميةٍ3 تمتح من قرونٍ من الانحطاط، ومن الهجمات الاستعمارية المضطردة، ومن المشاريع الإصلاحية القاصرة و/ أو المعاقة، يكمن بالأساس في طمس جذوة الحرية، ماضيًا وحاضرًا راهنًا، وأنّ الفردية شرط لازم لتبيئة الأخيرة، على اعتبار أنّ سؤال الذات في السياق العربيّ الإسلاميّ هو في كنهه سؤال الحرية، بوصفها المحرك الأول للذات. فالصراع من أجل الحرية هو صراع من أجل استقلال الفرد عن النسيج الحاضن الذي ما فتئ يذوب فيه في زمن ما-قبل الرسالة، ثم في زمن ما-قبل الحداثة، واستقلال عقل الفرد ووعيه بذاته عن سواه من الأغيار وقدرته على الفعل بحرية، وضمان كرامته وصونها، ونيل مرام احترام الذات وتحقيق الذات، بالمفاهيم المعاصرة للفلسفة السياسيّة.

ومن ثمّ، أطروحة هذا البحث أنّ الذات الفردية في السياق العربيّ الإسلاميّ ما فتئت تغيب غيابًا قسريًا بفعل سيادة «فقه الغلبة والاستبداد» الذي يسعى دون هوادةٍ إلى تذويبها في بوتقة الرعية، وإخضاعها في قالب الامتثال الاجتماعيّ؛ بالإضافة إلى غيابها غيابًا طوعيًا من جهة الانضواء العضوي في «بارادايم الجماعة» الذي يُغيّب الذات الفردية للمصلحة شبه-الحصرية للذات الجماعية. ومن ثمّ، يظلّ سؤال التنوير مؤجلًا ومرهونًا بالتصدي لأسئلة الذات الفردية واستقلالها عن الأغيار، لاسيّما عن أية سلطةٍ/ سلطويةٍ خارجية، وحريتها في الفعل الإرادي والتعاقد.

من أجل بيان هذه الإشكالية درسًا وتحليلًا، سنعود بداية إلى تبلور الذات الفردية مع الرسالة المحمدية، نسبةً إلى الحقبة التي سبقتها، ثم ننظر في حضورها أو غيابها/ تغييبها في الموروث العربيّ الإسلاميّ، سواء في تمثلاتها الرسالية أو الصوفية أو الفلسفيّة أو العمرانية؛ ثمّ نعرض بشكلٍ مقارن لأسئلة الذات والحرية والديمقراطيّة في المنظومة الغربية، ونناقش كونية النموذج الغربي للتنوير؛ لنقدم مقاربةً أصيلة للذات الفردية تروم النقد المزدوج للموروثين العربيّ الإسلاميّ والغربي.

أولًا. سؤال الذات في الموروث العربيّ الإسلاميّ

1. سؤال الذات والذاتيّة قبل الرسالة وعقبها

لم تكن الذات الفردية غائبة تمامًا في السياقات العربيّة قبل الرسالة المحمدية، بل نجدها حاضرةً في الشعر وفي الحرب وفي الأنساب؛ بيد أنّ السمة الغالبة لهذه الحقبة أنّ الفرد لم يكن مستقلًا بذاته، بل ظلّ ذائبًا في البنية الجمعية التي كانت تمثلها العشيرة أو القبيلة. فالعقل ما-قبل الرسالي لم يكن يتصور الفرد سوى ضمن بنية وشائجية عشائرية قبلية (أو خارجها، كما هو حال المنبوذ)، مع رابط عضوي أفقي قوي لا يُقهر: رابط العصبية. وهو ما يعبّر عنه الشاعر الجاهلي دريد بن الصمة في قوله:

وهل أنا إلا من غزية إن غـوت ** غويتُ، وإن ترشدُ غزيـة أرشدُ

فالذاتيّة إن وُجدت في العصر الجاهلي فهي سطحية لا جوهرية، وجزئية لا كلية، والوعي بها ليس ذاتيًّا وإنما مستمدًّا من القبيلة التي تتماهى معها الذات إلى حدّ الذوبان (إن غَـوَتْ غويتُ وإن تَرشدُ أرشدُ). والرهط الشاذ عن الامتثال الاجتماعيّ –قسرًا أو طوعًا، إن وُجد، فهو لا يعتدّ به في إثبات ذاتٍ مستقلة.

ولذا، فحتى الشعراء الصعاليك، في تمرّدهم على قيود القبيلة وأعرافها وأحكامها، لم يمثلوا نموذجًا مستقلًا يُعرّف تعريفًا ذاتيًّا، وإنما ظلّوا دومًا يُعرّفون بالنظر إلى القبيلة التي خلعتهم أو تبرّأت من نسبهم. وحتى عندما كانوا يُخلعون من رباط الجماعة القبيلة، فإنهم كانوا يبنون ذاتًا جماعية بديلة، عبر خلق دوائر ضيقة من الأفراد المتمرّدين المنبوذين، سواء كانوا ذوي مرجعية قبلية مشتركة، مثل «صعاليك هذيل»، أو ذوي مرجعية ثورية بحتة، لا تنتظم ذوات أفرادها، مثل «عروة الصعاليك»4. بل إنّ هؤلاء الصعاليك المشردين، في لحظات تفرد الذات المنبوذة، حتى خارج دائرة الصعاليك أنفسهم، كانوا يصطنعون الذوبان في روح الجماعة، ولو كانت قطيعًا من الحيوانات المفترسة، يتقاسمون معها شروط الحياة، وتوازنات صراع البقاء، في سديم الصحراء القاحلة5. وكلّ هذا يعزّز عدم قدرة الفرد العربيّ في فترة ما-قبل الرسالة على التفرّد والاستقلال عن الذات الجماعية مهما تمرّد عليها6.

كما يُجسّد نظام القصاص تمامًا ذوبان الذات الفردية في الذات الجمعية في فترة ما قبل الرسالة؛ فقبل أن تُحدّد قاعدة دية المقتول بمئة من الإبل للذكر وخمسين للأنثى، كانت القاعدة هي «النفس بالنفس». وفي كلتا الحالتين، لم يكن القصاص مخصوصًا بالقاتل، بل كان ممتدًا إلى عاقلته، على أساس أنّ القبيلة كلها كانت تعتبر مسؤولةً عن الجناية التي يقترفها فرد من أفرادها، إلا إذا خلعته وأعلنت ذلك في المجتمعات العامة.

مع الرسالة المحمدية، سيُستبدل هذا الانتماء الأفقي القوي للذات الفردية تجاه القبيلة بانتماءٍ عمودي اتجاه الذات العلوية؛ وهو رابط يرخص –عكس الأول– بتحرّر الذات واستقلالها. ذلك أنّ قبول العلاقة العمودية بالذات العلوية يعني الانقياد التام والإطاعة الكاملة لها، وهو ما يعني في الآن ذاته التحرر من كافة الانقيادات الأخرى في الاجتماع البشري، ماضيةً وحاضرة؛ وهو ما يعني تحلّل إطار الأعراف والتقاليد، وإمكان الانقطاع عن جميع العلائق والأغيار، والتحرّر الحقيقي من كافة الأغلال والقيود7. العبودية لله من هذا المنظور تحررّ الإنسان؛ وهو ليس فحسب تحررًّا خارجيًا من قيود الظلم والامتهان والاستعباد، وإنما أيضًا تحرّر داخلي من قيود أهواء النفس الجامحة ونزعاتها، كي تفسح المجال للعنصر العقلي والذوقي لاتخاذ القرارات بشكل رصين وناضج. وهذه العلاقة العمودية التي قوامها العبودية لله ربطت الحرية الفردية بالإطار الأوسع للعدالة الاجتماعيّة، من حيث إنها جعلت المكانة الاجتماعيّة والشرف والاستحقاق لم تعد تتأتّى عن طريق النسب والوراثة والانتماءات الأولية، وإنما عن طريق الخيارات الفردية الحرّة والحركية الاجتماعيّة والكسب والعمل والجدارة والاستحقاق8.

وإن وُجد منذ تفجر الرسالة الأول انتماء «أفقي» جديد للفرد يروم بناء علاقة إخاء تؤسس لـ «أمة الإسلام»، فإنه ليس انتماءً منغلقًا ومقيّدًا للفرد، بل هو مُشرعٌ بقدر ما هو ممتد المجال الثقافي والجغرافي الجديد الذي أسقط بالنسبة إلى «جماعة» المسلمين الحدود الإثنية والقبلية واللغوية الضيقة السابقة، وبقدر ما هو منفتح المجال الاجتماعيّ الذي جرى التأسيس له (بالمفهوم المعاصر لكارل بوبر)، لا يحصر الذات في حدود ضيقة بل يحررها ويرخص بانبثاق الفردية بوصفها مدار التكليف، ومدار التشريف، ومدار الثواب والعقاب9.

يُستنبط إذًا من هذا المنظور للفرد والذاتيّة بوصفه مدار التكليف أنّ أساس الرسالة المحمدية هو الحرية الفردية المطلقة إلّا بحدود واسعة ومتحركة وفق سياقات الزمان والمكان10. وهو ما سيجد له صدى –على نحوٍ جزئي، دون أن يتبلور على نحوٍ نسقي– في العديد الإسهامات العربيّة الإسلاميّة اللاحقة، لا سيما في الفقه والفلسفة وعلم الكلام والتصوف. فحتى إن كانت هذه المقاربات تنشد ما وراء الطبيعة أكثر مما تنشد الطبيعة، فإنّ الذات الفردية تظلّ حاضرةً فيها، مثلًا عند أهل العرفان والتصوّف الذين ينشدون «التحرر» من الذات السُّفلية لبلوغ الذات العلوية، من منطلق أنّ النفي تأكيد، ونفي الذات مآلًا هو تأكيد للذات وجودًا، ومعرفة الذات شرط لمعرفة الحق؛ حتى وإن كانت هذه الذات الفردية تظلّ –على وجه العموم، في نظرهم– غريبةً عن هذا العالم. وهو القول ذاته الذي يمكن أن يقال في الفلسفة وعلم الكلام، حيث يحتلّ الفرد مكانةً مميّزة، وإن كانت ومنحصرةً في حدود العلم النظري المجرّد والسعادة العقلية، مع «متوحّد» ابن باجة أو مع «حي بن يقظان» ابن طفيل على سبيل المثال. بالإضافة إلى مجال الفقه الذي يظلّ المجال الأكثر غزارةً في هذا الموروث والأكثر إيلاءًا حيزًا للفرد ولنطاقه الخاص، بوصفه مجالًا متعلّقًا بإدراك الجزئيات ودقائق الأمور في تأصيل «الأحكام الشرعيّة العمليّة المكتسبة من الأدلة التفصيليّة».

بيد أنه، على وجه العموم، لإن انتهج الفكر العربيّ الإسلاميّ طرقًا ومناهج شتّى للنظر في الذات، من برهان وعرفان وعمران، وأفرد لها تنظيرات معياريّة شتّى، فإنه لم يجر، على مدار هذه الإسهامات التي ستتعدّد فيها دلالات الذات الفردية، في أبعادها وفي جوهرها وفي هويتها، ربط السؤال الأنطولوجي لانبلاج الذات العربيّة الإسلاميّة –سوى نادرًا– بسؤال الوعي بالذات وبامتلاكها عقلًا مستقلًا أو ربطه بسؤال العمران والتدافع السياسيّ والاجتماعيّ والاقتصادي في المدينة، كما سنجده –على نحوٍ جزئي– مع ابن خلدون مثلًا؛ ومن ثمّ، فإنّ سؤال الحرية لم يُطرح بدوره على نحوٍ نسقي متسق.

بالخلاصة، إن كانت الرسالة المحمدية قد منحت أرومةً خصبة لبزوغ الفرد ولاستقلاليته الذاتيّة، عبر فكّه عن الانتماءات السابقة وضغوطات المحيط الخارجي والنسيج الاجتماعيّ، بوصفه المقرّر الوحيد لأفعاله والمسؤول عنها، وهو ما ستستأنفه –جزئيًا– بعض الإسهامات في التراث العربيّ الإسلاميّ التي أنتجت العديد من الشذرات بشأن الشّخص الإنسانيّ الفردي المسؤول أخلاقيًا، والمُراد من الله في تفرّده، والمحافظ على هذا التفرّد للأبد، والتي سيبلغ الفكر العربيّ الإسلاميّ فيها أسمى درجات الكونية، مع ابن رشد مثلًا، فإننا لا نجد –بالمحصّلة– منظومةً متكاملة تُضفي هذه القيمة الأنطولوجية على الشخص. والسبب الرئيس في ذلك يعود بنظرنا إلى أنه سرعان ما سيجري، في أعقاب تفجّر الرسالة الأول، الانحراف عن هذه العلاقة العمودية المحورية بالنسبة إلى الذات الفردية، والمرخّصة بانبلاجها واستقلاليتها، ليتمّ تذويبها من جديد –أفقيًا– في ذاتٍ جماعية قوامها «عقيدة أهل السنة والجماعة»؛ لتصبح «الجماعة» هي «الذات» وليس «الفرد». إذ سيجري طمس جوهر الذات البشرية الذي وُجد مع الرسالة المحمدية مع إرساء «بارادايم الجماعة»، عبر عمليّةٍ عميقة من النحت لشبكات مفاهيمية سوف تترسّب في اللاوعي الجماعي، لتشكلّ «إبستيمية سلفية» لا تزال –إلى اليوم– تحكم العقل العربيّ الإسلاميّ.

2. نشوء «باردايم الجماعة»

تأسّست الإبستيمية السلفية على نحوٍ تدريجي وترسّبت على أساس عددٍ من السرديات والمأثورات التي سيجري إضفاء طابع القدسيّة عليها، قوامها «بارادايم الجماعة»، بمعنى أنّ «لزوم الجماعة» فرض عين، يخصّ الجميع بلا استثناء، ولا يمكن المحيد عنه، بما يقتضيه ذلك من تجريدٍ للفرد من ذاتيّته وتذويبه كليًا في الجماعة. وما فتئت هذه المكانة التي اكتسبها «مفهوم الجماعة» عبر التاريخ الإسلاميّ تتباعد –عبر الزمن– مع إرادة النص القرآني بالنسبة إلى الفرد، ومنحه مكانة تحمّل مسؤوليته في اختياره الفردي والحر والمسؤول في الوجود.

وقد اعتمد العقل السلفي في بناء «بارادايم الجماعة» بالأساس على المدونة الحديثية المديدة التي تطفح بهذه المعاني المتضخمة في الكتب الحديثية المدوّنة بدءً من النصف الثاني للقرن الثاني الهجري11؛وهي المعاني ذاتها التي سيجري تعزيزها و/ أو إضفاؤها لاحقًا ex post sensemaking عبر العديد من الإسهامات الأصولية12.

من أهم نتائج هذه العمليّة لبناء المعنى بعديًا ex post إدراج بُعد «الجماعة» في متن العقيدة الإسلاميّة من خلال ما سيصطلح عليه «عقيدة أهلِ السنّةِ والجماعةِ»13. ويجري من هذا المنظور الاستدلال على أهمية التمسك بالجماعة بوصفها ضمانًا للعصمة من الخطأ عند الاتفاق على أمر من الأمور، وعصمةً من الوقوع في الخطأ لأنّ «الأمة لا تجتمع على ضلالة»، و«التوفيق والهداية الإلهية حاصل لها بمجموعها عند الاجتماع على أمر من الأمور»14. ويجري النهي عن النأي عن الجماعة، من منطلق أنه «إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية». فجماعة المسلمين يجري تمثيلها هنا وترسيخها في المتخيل الجماعي في صورة قطيع غنمٍ عرضةٌ باستمرار لذئبٍ يهدّد أية شاةٍ قاصية عن القطيع. إنه حديث الصهر الجماعي بامتياز؛ لأنه يحثّ الفرد أن يكون جزءًا من «قطيع» وجماعة معينة تحتضنه وتسهر على تلقينه وتنشئته وحمايته، وتحذره من الخروج عليها حتى لا يقع بين مخالب «الذئب» وأنيابه، أي إنها تزرع عنده الخوف من الخارج ومن الآخر ومن المجهول، في صورة الفتنة المتربّصة به دومًا.

3. من تغييب الذات إلى تغييب الحرية

أدى هذا القمع للفردية في السياقات العربيّة الإسلاميّة إلى محاصرة مساحات الحرية، وأسهم تغييب الذات الفردية في بروز نوعٍ من «العجز العام»؛ فجميع الأفراد عاجزون ذاتيًّا ويساهمون في بناء «سيد مصطنع»، أو «سيد مطلق»، يفوقهم جميعًا ويتسامى عليهم. ذلك إنه في غياب استقلالية الذات، تبرز الحاجة الماسّة إلى الأمان، ويعلو حبّ البقاء على سواه من غرائز الإنسان وحاجاته العلوية؛ وهو ما لا يتأتّى وفقًا للمنظور الهوبزي إلّا ببناء غيرية متسامية (ليفياثان) يبنونها بأيديهم، وينتظمون حولها بوصفها مركزًا يمتلك الحق المطلق والسيادة المطلقة التي تتسامى عن أيّة تعاقدية.

وهكذا، وبترابطٍ مع بناء «بارادايم الجماعة»، ستؤسّس الإبستيمية السلفية لفكرة الفرقة الناجية التي تمتح بدورها من مضامين حديثية مركزية لدى أهل الحديث والتقليد، وفي مقدمتها «حديث الفرقة الناجية»15؛ وهو ما يعزّزه بدوره بناءٌ أصولي مديد16. وفقًا لهذا البارادايم، ليس لأيّ مسلمٍ أن يخرج عن منهج أهل السنَّة والجماعة –كما جرى إضفاء المعنى عليه بعديًا– في اعتقاده وحلّه وحرامه؛ وليس له أن يخرج عن طاعة نظام الجماعة في غير معصية، سواء أكان المسلمون ذوي شوكةٍ أم ذوي وهن، في زمن الاستقرار كما في أوقات الفتن. فالتمسك بالجماعة و«الاعتصام بحبل الله المتين» هو من هذا المنظور من أسباب الهداية وحصول التوفيق والنعمة، والمحافظة على الإيمان17. وفي ذلك أيضًا لتقي الدين بن تيمية: «وهذا الأصل العظيم وهو الاعتصام بحبل الله جميعا، وأن لا يتفرق هو من أعظم أصول الإسلام ومما عظمت وصية الله تعالى به في كتابه، ومما عظم ذمه لمن تركه من أهل الكتاب وغيرهم، ومما عظمت به وصية النبي في مواطن عامة وخاصة»18.

كما وعزّزت الإبستيمية السلفية من أسس هذا البناء الأحادي من خلال ربط مبادئ «الجماعة» و«الفرقة الناجية» المومأ إليها أعلاه بفكرة «الفتنة» الكامنة والمتربصة بجماعة المسلمين في كلّ آنٍ وحين، ولا يدرأها سوى «الاعتصام بحبل الله المتين» و«عدم شقّ عصا الطاعة». ففي كلّ زمانٍ ومكان، يلزم «التمسك بالجماعة» على اعتبار أنّ الحق مع الجماعة القائمة بالحق و«الإمام الشرعي»، الذي لا ينبغي تحت أية ذريعةٍ شقّ عصا الطاعة له19؛ لتصبح طاعة الإمام المتغلّب أو المتسلّط رديفةً للاعتصام بـ «حبل الله المتين».

وقد ترسّبت كل هذه الآثار المروية على المستوى الإبستيمي لتنتج إبستيميةً صلبة ومتكاملة قوامها السمع والطاعة لولي الأمر طاعةً عمياء لا تشوبها شائبة، ولا مجال فيها لانبثاق ذاتٍ فردية أو استقلالها أو توطدها أو ممارسة فعلها الإرادي. وقد أدى هذا التوجه إلى ضرب ملكية الفرد لذاته واختيار مسار راهنه ومصيره على حدٍّ سواء. ومن ثمّ، ففكرة الحرية بوصفها تحقّقًا لإرادة الفرد على حساب ضغوطات الجماعة وتميّزه وتفرّده غدت مستحيلة التحقّق، وظلّت فهومات الحرية لأمدٍ طويل في التاريخ العربيّ الإسلاميّ أسيرة المدلولات اللغوية الضيّقة التقليدية المعتادة، من قبيل الخُلوص من العبودية ومن القيد والأسر20، وعاجزةً عن استيعاب معانيها الحديثة، أي ما يصدر منه الفعل مع الإرادة للفعل على سبيل الاختيار، على الصعيد السياسيّ كما على الصعيد الاقتصادي، وبوصفها فِعلًا مستقلًا وتبادلًا حُرًّا وطوعيًا للإرادات، وغيابًا للقهر والإجبار21.

وقد أفلحت الأنظمة السياسيّة المتغلّبة منذ عهد معاوية في توظيف هذه الإبستيمية وترسيخها لتوطيد أواصد حكمها المتغلّب. وفقد خطاب العدالة جوهره لمصلحة رؤى جد اختزالية للعدل غالبًا ما تصبّ في مصلحة الحاكم المتغلب الذي يضفى عليه سمة المثالية في صورة المستبد العادل.

لقد فتح إرساء «باردايم الجماعة» بابًا مشرعًا أمام السلطوية والاستبداد. ففي مجتمعٍ قائم على صورة القطيع، يسهل على الراعي التحكّم في المجتمع ككل، وضبط إيقاعه، وتدجينه، مقارنةً بمجتمع يسود فيه «باردايم الفرد»، ويكون بطبيعته أكثر انفتاحًا على الدمقرطة. لا غرو إذًا أن ينتقل «بارادايم الجماعة» في الأزمنة الحديثة ما-بعد الكولونيالية إلى «بارادايم الدولة» (أو الدولاتية)؛ لا سيما وأنّ الأنظمة الاستبدادية ما فتأت تدفع بالسرديات المبنية على الخوف من الآخر ومن الإرهاب ومن الاحتراب الأهلي، وتعزّز الصورة المطمئنة لـ «الجماعة/ الدولة» في مقابل صوة «الذئب/ الفتنة» التي تظلّ جاثمةً على مخيّلة ولاوعي كلّ من تسول له نفسه أن يعبّر عن قيمته الذاتيّة وتطلعاته في الحرية والكرامة والمساواة، وتجعله معرّضًا للسجن أو التعذيب أو الهروب من الوطن، وليظلّ الفرد «قاصرًا» أبدًا وعاجزًا عن الخروج عن «الاستلاب المعمّم» في المجتمع22. وهو ما سيجري التنظير له في الفكر العربيّ المعاصر من خلال مقاربات «مجتمع الوصاية» عند عبد الكبير الخطيبي23، أو «المجتمع البطريركي» عند هشام شرابي24، أو «خطاطة الشيخ والمريد» عند عبد الله حمودي25، حيث حق الجماعة أجدر من حق الفرد، وحق الدولة أحق من حق الفرد، وحيث لا يمكن أن تنبثق وتزدهر فكرة حقوق الإنسان-الفرد، إذ تتجلّى سلطة القانون ظاهريًا وتنحسر جوهريًا لمصلحة سلطةٍ أسمى هي سلطة التغلّب والأحادية والخوف والطاعة. فهذه الوصاية، بتلويناتها المختلفة، إنما تروم استدامة استراتيجيات الهيمنة عن طريق تجديدٍ مستمر للانضواء الطوعي للأفراد في البنية الجمعية للأعراف، بما يقتضيه ذلك من كبتٍ للإرادات الفردية والدفع بقمعها، إن على نحوٍ مصرّح معلن أو على نحوٍ طوعي مضمر. كما تميل هذه الهيمنة إلى الاستدامة من خلال عمل آليات إعادة إنتاج رأس المال في مختلف أشكاله على النحو الذي حللّه بيير بورديو26.

من الواضح إذًا أنّ غياب الفردانية في البلاد العربيّة الإسلاميّة قد أسهم في تأخر مشروع الحداثة، بسبب خضوع الفرد لهذا الموروث من الرؤى المشتركة وضروب الاستلابات الجمعية والقوانين الاجتماعيّة والسياسيّة التي تقيّده وتحدّ من إرادته الشخصية ورغبته في تحقيق الاعتراف وتحقيق الذات. ومن ثمّ ظلّ سؤال الحرية مغيّبًا بوصفه من دون معنى في نظامٍ اجتماعيّ متماهٍ مع احترام النظام الطبيعي للكون المنبثق عن المشيئة الإلهية.

وحين تفكّر أغلب الدراسات العربيّة في غياب الذات العربيّة الإسلاميّة، ماضيًا وحاضرًا، فهي تظلّ –بالمجمل– تنظر إليها بخلفية الآخر؛ والآخر بالنسبة إلينا نحن العرب –كما يقول عبد الله العروي– هو الغرب. وفي هذه المقابلة، تظل خلفية «الذات الديكارتية المفكرة» مركزية. ولهذا فهذه الدراسات التي تنظر في التراث العربيّ الإسلاميّ بالعدسة الديكارتية، منقّبةً عن معالمها من نقدٍ وشكٍ وتساؤلٍ وإعادة النظر باستمرار، لا تفيدنا كثيرًا على اعتبار محدوديتها وأحادية منظورها في جعل الحياة ملحقةً بالعلم والوجود منبثقًا عن العقل.

لكن إن لم تكن بالتأكيد الذاتيّة الفردية بوصفها أساسًا للحرية الفردية اختراعًا غربيا، فإنّ هذه البيئة الغربية قد مثّلت تاريخيًّا بالتأكيد التربة الأخصب التي نبتت فيها زرعة الذاتيّة وأينعت حريةً وديمقراطيّة. ولذا من المهم –في سبيل الإسهام في تأصيل الذات الفردية في السياق العربيّ الإسلاميّ– مقابلة هذا العوز في انبثاقها في سياقاتنا بتحقّقها في دول المركز الغربية وتفجرها في الأزمنة الحديثة والمعاصرة.

ثانيًا. سؤال الذات في الموروث الغربي

مثّلت الذاتيّة الفردية أحد أهم أسس عصر الحداثة في العالم الغربي الذي اقترن في بداياته بتكريس تحرّر الفرد ممّا هو اجتماعيّ، وتحرّر ما هو اجتماعيّ ممّا هو مقدّس؛ وهو ما يعبّر عنه ماكس فيبر بـ «نزع سحر ما - وراء الطبيعة عن العالم» Disenchantment of the World 27، ممّا سمح باستيعاب الطبيعة التعدّدية للمجتمعات الغربية المعاصرة، وفتح المجال أمام أشكال جديدة للفردانية والحرية والاندماج الاجتماعيّ.

1. الذات أساسًا للتنوير الغربي

يذهب البعض إلى القول إنّ الفلاسفة السياسيّين الإنكليز عندما صاغوا مقارباتهم الحداثيّة، فإنهم لم يقوموا إلّا بإعادة صوغ المثاليّة المدنيّة الإغريقيّة القديمة بلغتهم28. فيما يؤكّد آخرون أنّ الرومان بابتداعهم القانون الخاصّ، فإنهم قد ابتدعوا أيضًا الشخص الإنسانيّ الفردي، الحُرّ، والذي يمتلك حياةً مستقلة، وملكيّةً خاصة، ومصيرًا مُفردًا، ولا يمكن ردّه إلى أيٍّ آخر؛ أي «الأنا»؛ بمعنى أنّ القانون الرومانيّ من شأنه أن يكون المصدر الرئيس للمذهب الإنسانيّ الغربي29. فيما ينحو فريق آخر إلى القول إنه لم توجد إرهاصات تأصيل الذات واستقلاليّة الذات الفرديّة في الموروثات الإغريقيّة (الديمقراطيّة الأثينيّة)، والرومانيّة (القانون الخاص)، وأيضًا المسيحيّة، سوى على نحوٍ جزئي، بيد أنها لن تكتمل سوى مع القطيعات الإبستيمولوجيّة30، والتحولات الاقتصاديّة والاجتماعيّة31، والثورات الديمقراطيّة الحديثة التي حقّقت نقلةً نوعيّةً قوامها الصراع ضد الاستبداد ومن أجل التحرّر والديمقراطيّة.

وأيًا ما تكن المصادر البعيدة والدانية لتوطين الذاتيّة الفردية، فإنّ مدارس التنوير الغربي الذي انطلق من إسكتلندا، ومرّ عبر فرنسا، لينتهي في ألمانيا، تتفق –في تنوّعها32– على استقلالية الفرد وانسياقه لسلطة العقل، وليس لأية سلطة خارجية. فالفردية الحديثة في التنوير الغربي تروم إنهاء كل الوساطات بين الفرد وسعادته، وتؤشّر على نهاية كلّ تسامٍ، ومن ثمّ نهاية كل سلطة تحدّ استخدام الحرية. ولذا فقد تبلورت بوصفها وعيًا بالقدرة على استعمال العقل على نحوٍ متفرّد يحرّر القدرات الفردية من قُصورٍ مُزْمِن ظلّ يلازمها لأمدٍ طويل، لتتفجّر في ثوراتٍ علمية وتكنولوجية وفنية. كما سيترسّخ مبدأ اعتبار الإرادة الفرديّة أساسًا للوجود وللسلطة والحكم، سواء في ليفياتان هوبز، بوصفه تفويضًا ناجمًا عن إرادةٍ حقة، وإن كانت سلطة مطلقة، أو من خلال ليبرالية جون لوك، بوصفها قانونًا وضعيًّا، وقضاءً مستقلًا، وقوّةً رادعةً تضمن إنفاذ القانون، أو في تعاقدية جون جاك روسو، مع انصهار السلطة العليا والإرادة العامة مع الإرادات الفرديّة في إرادة واحدة، حيث الإرادة التي تسنّ القوانين هي عينها التي تخضع لها.

ترافقت إذًا استقلالية هذه الذاتيّة الفردية بديناميات فاضلة عديدة، من أهمها تحرير القدرات النقدية للإنسان؛ وهذه الروح النقدية هي التي ستقود إلى الجانب العلمي للتنوير. فقد جرى الانتقال من سؤال «لماذا» إلى سؤال «كيف»، على اعتبار عدم إمكان (أو عدم جدوى) الإجابة عن جوهر الأشياء أو سببها الأول، وإنما الأهمّ والأساسيّ النظر في كيفيتها فحسب modus operandi. وسينتج عن هذا التحرير للروح النقدية للأفراد ولقدراتهم الإبداعية الكامنة الفتوحات العلمية والتكنولوجية المعاصرة. فمنذ أن ترسخ الاستخدام الحر للمعرفة، تمكّن العلم من أن يخطو خطوات واسعة غيرت وجه العالم، واستطاع الإنسان الغربي تحقيق مستويات من الأمن الشخصي والرفاه المادي لم يشهدها أي مجالٍ جغرافي على وجه البسيطة من قبل، وانبثق إيمان جديد بالقدرات الذاتيّة غير المحدودة ودورها في صناعة النجاح الشخصي، باتساق مع تحقيق المصلحة العامة.

2. من الذاتيّة إلى الحرية

عبر تاريخ الأمم والشعوب، ظلّت الحريات دومًا مقيّدةً ورهينة تقاليد المجتمع ووعيه الجمعي. وقد أفقدت هذه الروح الجمعية المحافِظة بصرامة على تقاليد الثقافة الجمعية الأفراد استقلالهم على مدى التاريخ، وقضت على تميّزهم، وتساوى الجميع تحت سياط السلطة الذي كانت تتجسّد فيها هذه المركزية الجمعية المتسامية؛ وهي –بحكم الضرورة– سلطة استبدادية لا تمثّل سوى مصالح فئوية ضيقة. غير أنّ بزوغ عصر النهضة في أوروبا، والذي رخّص به الإصلاح الدينيّ، سوف يشعل جذوة النضال ضد ثالوث الاستبداد (الكنيسة والملكية والإقطاع)، ويحيي النزعة الفردانية التي كانت قابعةً في أعماق الناس منتظرةً تحريرها من كلّ القيود. لتتفجّر الحريات الفردية والعامة منذ ذلك الحين، على نحو متصل بتحقق استقلالية الإرادات الفردية أكثر فأكثر.

ويمكن إبراز معالم هذا التحوّل القائم على التحرّر عبر الدفع بالاستقلالية الذاتيّة من خلال تحوّلات الإطار الاجتماعيّ الأوسع الذي تندرج فيه، والتي يجسّدها التمييز بين نموذجين معياريّين للمجتمع، المجتمع المنفتح والمجتمع المنغلق. فوفقًا لما بيّنه كارل بوبر33، المجتمع المنغلق هو المجتمع القائم على الأصل السحري أو القبلي؛ وهو ذو سمةٍ «سحرية» لأنه لا يميز بين «الحقائق» و«التوافقات الاجتماعيّة»، وكل شيء يُعزى إلى إرادةٍ خارقة للطبيعة؛ كما أنه ذا طبيعة قبلية أو عضوية، يجري فيه اتخاذ القرار من لدُن سلطةٍ متسامية باسم المجتمع أو الجماعة. إنها رؤيةٌ للمجتمع في شكل قطيعٍ يرعاه راعٍ يسوقه حيث يشاء؛ وهو أيضًا مجتمع يعيش ضمن إطارٍ عرفي صارم، وأية تغيرات اجتماعيّة تكون في كل مرة عبارةً عن أزماتٍ حقيقية. فكل شيء مؤسّس على أساس دينيّ أو مقدّس، تَسِمُه الأحادية، ولا يسمح بتجاوز الخطوط الحمراء والطابوهات؛ وكل من تخطّى هذه الحدود المرسومة بدقة يتمّ استبعاده من المجتمع أو تعزيره أو التنكيل به. إنه باختصارٍ «مجتمع اليقينية»؛ حيث يوجد يقينٌ لمعرفة أنّ كل شيءٍ مألوف وأنّ كلّ واحد في مكانه. ولذلك فهامش التردّد أو النقاش أو التعددية ضيقٌ جدا في مثل هذا المجتمع، لأنّ كلّ شيء تتمّ تسويته مسبقًا ولا يخضع للنقاش وتبادل الآراء. وهو بذلك يلعب على وتر رغبة الأفراد المجرّدين من ذاتيّتهم في الأمن والعيش في مجتمع مستقر وهرمي، ضمن مجموعة اجتماعيّة من التماثلات تُقدّر القيمة الاجتماعيّة الكلية، وتُنزل الفرد مرتبةً دنيا.

وعلى الرغم من بعض التأسيسات المعياريّة في الماضي التي رخصت بانبلاج المجتمع المفتوح القائم على تفاعل الأفراد المستقلين، كما أشرنا أعلاه مع الرسالة المحمدية في تفجرها الأول، ظلّ النموذج المجتمعي المنغلق هو السائد طيلة العصور القديمة والوسيطة، إلى غاية مقدم الحداثة الغربية القائمة على الذاتيّة والحرية الفردية التي ستُحدث معه قطيعةً، ليس معياريًّا فحسي، وإنما على أرض الواقع أيضًا، وتدفع بتطوّر «مجتمعٍ منفتح» هو بمثابة بوتقة صهرٍ للحريات الفردية، يتغذى على فعل الأفراد، ويسبق إرادتهم ووعيهم. إنه مجتمع يتحرّر فيه الفرد من ثقل المجتمع التقليدي، لتنبثق أشكال اجتماعيّة جديدة ليست خطوطها مرسومة سلفًا قبل ولادة الأفراد، بل هي نابعةٌ من اختياراتهم وفعلهم الاجتماعيّ وتفاعلهم البيني. ومن الضروري التأكيد في هذا الصدد على مقولة آدم فيرغسون، إنّ مثل هذا النظام الجماعي المنفتح هو «نتيجة لفعل الأفراد، وليس لخططهم»34، في إطارٍ من التواؤم العفوي لمصالحهم. المجتمع المنفتح هو إذًا مجتمع يجعل أفراده يواجهون قراراتهم الشخصية بحرية، ويكون فيه الأفراد صنّاع مصائرهم. وهو ما يدحض التوجهات الشمولية الكامنة وراء كتابات هيغل وماركس، على سبيل المثال، في الاعتقاد بأنّ التاريخ يخضع لقوانين تحدّد مجرى الأحداث، وبأنّ «الفرد ليس شيئًا»، أو هو مجرّد أداة لاواعية للتاريخ، في حين أنّ «الجمعي هو كلّ شيء». وبتعبير آخر، يُضحي عدم اليقين النسبي مكوّنًا أساسيًّا في العلاقات الاجتماعيّة في قلب المجتمع المنفتح. فهذا المجتمع يجعل الأفراد غير متأكدين من هوياتهم؛ وتزداد حركيته بقدر تزايد تأثيرات التكنولوجيا والمؤثرات الاقتصادية.

يبقى أنّ أولويّة انفتاح الوعي الفردي وأسبقيّته على أيّ شكلٍ آخر من الانفتاح لا يمكن أن يُقَرّ قبليًا ex ante بأحاديّة. فالأجدر مقاربة الفردانيّة الصاعدة بموازاة الانفتاح المرافق لها في شتى المجالات، بوصفها ظاهرةً متكاملة تصلح قراءتها على ضوء الاتساق البعدي ex post للإرادات الفردية المستقلة، ممّا يعني أنّ الفردانيّة لا تُفهَم إلا في إطار مجتمع مفتوح مكتمل الأركان؛ أو لنقل، في إطار مجتمع كوني.

3. في كونية النموذج الغربي للتنوير

بتحريره المعرفة من وصاية الدين، حمل التنوير الغربي وعودًا بالكونية تُفيد استقلالية الفرد، كلّ فرد، في إطارٍ من الترابط الاجتماعيّ البيني والتطلع إلى الصالح العام؛ بيد أنّ هذه الوعود لم تتحقق بالكامل35. فإن كان التنوير الغربي ينطوي على مبدأ كوني لحقوق الإنسان، كلّ إنسان، فإنه قد تمثّل تاريخيًّا، وعلى أرض الواقع، وإلى اليوم، في حقوق الإنسان الأبيض والأوروبي بالأساس. ذلك أنّ أساس الكونية التي يدعي التنوير الغربي تجسيدها من منطلق أنّ العقل يُنتج بحكم الضرورة الإجماع، هو في الواقع إجماعٌ يستبعد كلّ من لا يشبه إنسان المركز «الأوروبي»، «الذكر»، «الأبيض»: النساء، والأطفال، والحمقى، وخاصةً «البرابرة» الآتون من خارج حدوده36. ومن ثمّ، تحمل الإثنية المركزية الغربية في متنها ديناميات طاردة عن المركز Centrifugal forces تستبعد بعض الجماعات من داخله (الأقليات الإثنية والدينيّة والجنسية)، وخصوصًا من خارجه (أو «البقية» The Rest في مقابل «الغرب» The West، بتعبير ستيوارت هول)37، أو تقود إلى فرض الوصاية عليها بحكم «الاستعلاء» Condescension المحايث للغرب38، ولنظرته للآخر غير الغربي القابع –بحكم الضرورة في وعي المركزية الغربية أو لاوعيها– تحت سلطة الجماعة الطاغية والمقيّدة لأية إمكانية للتحرّر الفردي والاستقلالية39.

ولا تقف محدودية كونية النموذج الغربي للتنوير عند هذا الحدّ. فبنظرةٍ استرجاعية للقرون الثلاثة الماضية، نتبيّن أنّ الحداثة الغربية في تجلّياتها ما فتأت تفتقر ذاتيًّا إلى مقوّمات هذه الكونية التي تدّعيها، وتحمل في ثناياها العديد من التناقضات التكنولوجية والاقتصادية والسياسيّة والمؤسّساتية العديدة المتصلة بـ «أسطورة التقدم» Myth of progress، بمعنى فكرة أنّ سيرورة التاريخ البشري هي محكومةٌ بالتّقدم إلى الأمام، والصّعود إلى الأعلى، خطوةً بعد خطوة، وجيلًا بعد جيل، مُلهمةً البشرية للتّسامي من ظلمات الجهل إلى أنوار العقل؛ بمعنى آخر، أنّ العلم والتكنولوجيا يؤدّيان حتمًا إلى حياةٍ أفضل. وهي الأسطورة التي تبلورت مع الثّورة العلمية الآلية في القرن السابع عشر، بوصفها حركةً «صعودية وضرورية» للمجتمع، وأصبحت تدريجيًا الفلسفة الوحيدة لتاريخ الحداثة40. وبتعبيرٍ آخر، بتحديده مشروعًا نظريًا قائمًا على فكرة «التقدّم» فحسب، يقصي التنوير الغربي الأنماط الأخرى من الوجود لمصلحة رؤيةٍ قوامها أحادية الفكر Pensée unique 41.

كما يتجلّى هذا الانزياح عن الكونية في تزايد الفردنة المفرطة في المجتمعات الغربية المعاصرة، وتجاذباتها مع النسيج الأهلي والمجتمعي، من استهلاك مفرط، وفقد المعاني الجوهرية للحرية لمصلحة تجلياتها الصورية فحسب، والإشكالية المساواتية المركّبة42. فضلًا عن سؤال «الاعتراف» المركزي والذي يُعدّ أحد أبرز تحديات الحداثة الغربية في كونيتها43.

ما يعني بالمحصّلة المحدودية الذاتيّة والموضوعيّة لكونية النموذج الغربي للتنوير؛ وهو ما لا يتنافى مع ضرورة السعي إلى استلهام جوانبه المضيئة، ومحاولة درء الأعطاب الحداثيّة التي وسمت هذه التّجربة، والوصل في الآن ذاته بالسياقات العربيّة الإسلاميّة وعدم القطع معها، في أيّ مشروع لتأصيل الذات والحرية في هذه السياقات؛ متسلّحين في ذلك بمنهجية «النقد المزدوج» للموروثين العربيّ الإسلاميّ والغربي، كما بلورتها المدرسة المغربية مع كلٍّ من عبد الكبير الخطيبي وعبد الله العروي وعبد الله حمودي وغيرهم، في عمليّة ذهاب وإياب مستمرة بين بين الموروثَيْن44، من منطلق أنّ القيم الكونية مشتركٌ إنسانيّ بين المجتمعات.

ثالثًا. شذرات في تأصيل الذات والحرية في السياقات
العربيّة الإسلاميّة

انطلقنا في هذا البحث في مقاربة إشكالية السياق العربيّ الإسلاميّ من مدخل سؤال الفرد، والذي هو بالأساس بُعد «الذاتيّة»، لما يعني من فعل الإرادة الحرة بوصفه المحدّد الأساسيّ للاجتماع البشري45. ولذا من المهم وضع سؤال البحث ومناقشته ضمن إطاره الصحيح، أي ضمن إطارٍ اجتماعيّ –وليس ميتافيزيقي– محدّد46؛ متوسّلين بمقاربةٍ تستلهم الموروثين العربيّ الإسلاميّ والغربي، وتنقدهما في آنٍ واحد.

لقد أكّدنا أعلاه أصالة الذات الفردية في الموروث العربيّ الإسلاميّ في تفجّر الرسالة الأول، على الرغم من طمسها لاحقًا عبر طبقاتٍ معرفية ترسّبت على المستويات الأركيولوجية للمعرفة والوعي، لتشكّل إبستيميةً صلبة. وبيّنا، بتوافقٍ مع فرضيتنا البحثية الثانية، أنّ غياب الحرية الذاتيّة والتفرّد والتميّز الفردي في المجتمعات العربيّة الإسلاميّة قبل الحداثيّة ليس نابعًا من طغيان الذات العلوية، وإنما ناجمٌ عن طغيان «بارادايم الجماعة»؛ وصولًا إلى رسوخ ثقافة الرعية والقطيع إلى اليوم (في صيغة الوصاية والبطريركية)، واستدامة التسلّط والاستبداد في «البارادايم الدولاتي» المعاصر.

كما بيّنا، بتوافقٍ مع فرضيتنا البحثية الأولى، الترابط المتصل بين غياب هذه الذاتيّة الفردية في السياقات العربيّة الإسلاميّة التاريخيّة والمعاصرة وغياب الحرية، ومن ثمّ عدم توافر الشروط القبلية لتوطين التنوير، لا سيما الدفع بالفردية بوصفه في الآن ذاته دفعٌ بالحرية الفردية وفعل الإرادة الحرّة، والمحدّد الوحيد للاجتماع البشري والتعاقد على الحكم دون قسرٍ أو إكراه. وأبرزنا في هذا الصدد كيف أنّ التنوير الغربي –على علّاته– قد استطاع ترسيخ هذه القيم على نحوٍ مستدام، على الأقلّ في أبعادها الإجرائية و/ أو الشكلية، معرّجين على نقاش أعطاب الحداثة الغربية وقصور كونيتها وأوجه استلهام بعض أهم إسهاماتها المعياريّة المعاصرة.

يبقى السؤال المركزي بشأن انبثاق الذات المدنية المستقلة والمتعاقدة بعقد اجتماعيّ في المدينة، بوصفه نتاجًا لمجموع إرادات الأفراد، انطلاقًا من الذات الطبيعية. ذلك أنّ كلّ ذات فريدة تفرّدًا أنطولوجيا، بيد أنه تفرّدٌ محدود لا مطلق. وهو تفرّد مستمدّ من الخصائص الذاتيّة واللصيقة بالفرد Idiosyncrasies ومنغرس فيها، من تربيته، وتاريخه الشخصي، وتطلعاته، على خلاف زمن ما-قبل الحداثة، حيث الأشخاص نسخةٌ عن بعضهم البعض، لا تفرّد لهم. فالمجتمعات التقليدية المنغلقة تخنق عمومًا في المهد كلّ نزعة فردية للتميز والاستقلالية، وتثقلها بكاهل كيانها الجمعي القهري، وتُقوْلب الشخص على نواميسها وتعاليمها حتى تُعدّه لدوره الاجتماعيّ المنتظر منه. داخل هذه المنظومة، يحتلّ كل شخص موقعه التراتبي المقرّر له والمحدّد بدقةٍ سلفًا، في حين أنّ المجال مفتوحٌ في المجتمعات المنفتحة للتفرّد وتبلور الشخصية الفردية النقدية والمبدعة، بوصفها أساس كلّ اجتماع وكل تطور. فكيف ينجم النظام الاجتماعيّ المتسق والمنفتح انطلاقًا من الفرد، متى وضعنا هذا التفرّد الأنطولوجي للذات في إطاره الاجتماعيّ الوضعي؟ وكيف لا يهدّد تطور الفردية اللحمة التي تضمن الاندماج الاجتماعيّ؟ وكيف يتواءم المجال الخاص في خصوصيته مع المجال العام في إكراهاته؟ تلك أسئلة لم يعرض لها الفكر العربيّ الإسلاميّ بالدرس والتحليل سوى لمامًا، ولا نجد لها أجوبةً شافية في الموروثات العربيّة الإسلاميّة، بيد أننا نجدها حاضرةً بقوة متى ولّينا وجهنا شطر المقاربات الغربية الحديثة، لاسيّما مع آدم فيرغسون وآدم سميث، ثمّ لاحقًا مع كارل بوبر وفريدريك هايك، على سبيل المثال لا الحصر. ومن أهم ما يستشفّ من هذه الإسهامات أنّ النظام الاجتماعيّ ينتج عن الفعل الاجتماعيّ للأفراد فحسب، وليس عن إرادتهم أو عن وعيهم أو عن خططهم، ولا عن سلطةٍ أو إرادةٍ جمعية، ولا عن نظامٍ فوقي، وإنما هو نتاج نفسه فحسب. بمعنى أنّ سيادة الفرد لا تؤدي إلى تشظيته، لأنّ الوعي الذاتيّ هو دائمًا ذو طبيعة علائقية، سواء بالنسبة إلى العلاقة بالعالم أو العلاقة بالآخرين. ولذا فالفردية واستقلالية الفرد على المستوى الجزئي micro تسير جنبًا إلى جنب في المجتمع المنفتح مع الاندماج الاجتماعيّ والتعاقدية والدمقرطة على المستوى الكلّي macro47،
وتتجلّى في المواطنة الكاملة، ومنظومة الحقوق والحريات، وامتلاك الملكية الخاصة، والتقسيم الاجتماعيّ للعمل48.

ومن ثمّ، من شأن هذا التجسير مع البناء المعرفي الغربي المعاصر أن يسلّط الضوء على العديد من الإشكالات العويصة التي تعوق تبيئة الشروط القبلية للتنوير في المجتمعات العربيّة الإسلاميّة والتي تهمّ بالأساس قضايا التعددية والدنيائية، من خلال تأكيده على أنه لا يهمّ في المجال الجمعي ما يحمله الأفراد المتعاقدون من عقائد وأيديولوجيات وثقافات خاصة، وإنما ما يفعلون فحسب. وبتعبيرٍ آخر، أنّ معتقداتهم تظلّ رهينة مجالهم الخاص «المقدّس»، سواء على المستوى الشخصي micro أو الوسيط meso، بينما هم يتفاعلون فيما بينهم في المجال العام macro بموجب فعلهم الاجتماعيّ فحسب49.

تسمح لنا هذه الأرومة الأنطولوجية والاجتماعيّة بإثبات الفرضيتين البحثيتين للدراسة، بيد أنها تظلّ مع ذلك قاصرةً عن الإجابة عن أسئلةٍ ذات صلةٍ مركّبة. فمتى نظرنا في الحرية المنبثقة عن الذاتيّة الفردية في إطارٍ اجتماعيّ متسق ويراعي حقوق الجميع50، بوصفها حرية الاختيار والفِعل دون قسرٍ أو إكراه51، فإنّ سؤال «الحرية في ماذا؟» يفرض نفسه، بمعنى سؤال الحرية التي تتجاوز حدود الحرية «السلبيّة» إلى فضاءات الحرية «الإيجابية»، التي لا تعني المجال المفتوح للفعل والتملّك فحسب، بقدر ما هي قدرةٌ على الاستفادة من هذا المجال؛ أي المجال الذي يمتلك فيه المرء «القدرة الحقيقية» على الاختيار والفعل والتملّك52. وبتعبيرٍ آخر، إن كانت الحرية الفردية هي عماد العُمران، وأنه «لا يمكن أن تُحَدَّ الحرية إلاّ باسم الحرية»53، فإنها ينبغي أن تكون حريةً «حقيقيّة» لا «صوريّة» فحسب، كما هي عند الليبرتاريين، بمعنى ما الفرد قادرٌ على تحقيقه بالفعل؛ ما دام الهدف ليس هو مجرّد إفساح المجال للاختيار، مع الأهمية القصوى لإزاحة جميع العوائق من قسرٍ وإكراهٍ وتسامٍ جمعي، لا سيما في سياقاتٍ شمولية وسلطوية، بل «تمكين» الفرد من جميع الموارد المتاحة لجعل حريته الحقيقية في الاختيار بين أنماط العيش المختلفة ممكنة54.

بتعبيرٍ آخر، لا ينبغي طرح سؤال الذاتيّة والحرية بشكلٍ منقطع عن الإطار الأوسع الشامل للعدالة الاجتماعيّة، الذي يصهر أبعاد الحرية والمساواة والاعتراف؛ والتي ظلّت السياقات العربيّة الإسلاميّة بصددها أسيرة المقاربات الضيقة التي تقتضي معاملة الجميع بالطريقة نفسها، وتختزل العدالة في عدالة القضاء55، وتحصر آمال الأفراد ومحفزّاتهم في إشباع الحاجات الأساسيّة، ومن ثَمّ تقصُر متطلّبات العدالة على هذه المستويات56. ومرةً أخرى، متى ولّينا شطر بعض المقاربات الغربية المعاصرة نجد اتساقًا قلّ نظيره عبر التاريخ للحرية والمساواة57، يتجاوز المقاربات المساواتية التقليدية التي لا يمكنها أن تُفضي إلّا إلى «تسويةٍ بالأدنى» Levelling downwards مرادفةٍ لفقدان النّجاعة بالنسبة إلى المجتمع، ليُفضي إلى منظومةٍ للعدالة للاجتماعيّة أساسها النجاعة وقوامها الإنصاف ومدارها الإخاء58.

في هذه المنظومة المتكاملة للعدالة الاجتماعيّة، لا يغيب الخلاف والتنافر الناجم عن تعددية المجتمع المنفتح، بل إنه يظلّ كامنًا؛ غير أنه «مُحيّدٌ» بفعل الترابطات الاقتصادية البين-فردية القوية، والآليات السياسيّة والديمقراطيّة قيد العمل، والاندماج الاجتماعيّ المنبثق تلقائيًا عن تفاعلات الإرادات المستقلّة وتكاملها، والهوية والثقافة المشتركة المنصهرة في بوتقة تسوية العيش المشترك modus vivendi. إنه منظورٌ للعيش المشترك بمحصّلةٍ إيجابية، تتضافر فيه إرادات الأفراد المستقلين والمتآلفين بفعل الآليات الاقتصادية والسياسيّة والاجتماعيّة والثقافية المشار إليها أعلاه، ويقطع مع الرؤى السائدة بمحصلةٍ صفرية، القائمة على إواليات التناحر الحتمي وغلبة الأهواء والهيمنة، والتي تعوق أية دينامية تطورية فاضلة59.

خاتمة

غالبًا ما تكون الدعوة إلى التنوير مؤثرةً بقدر ما تكون البيئة التي تحتضنها موغلةً في الظلمة والجهل والتبعية. وفي سياقاتنا العربيّة الإسلاميّة الراهنة، حيث تسود النعرات الطائفية، والتعصّب المذهبي، والاحتراب الأهلي، وحكم الغلبة والاستبداد، تزداد الحاجة إلى التنوير أكثر من أي وقتٍ مضى، ليس بوصفه نقطة وصول، وإنما بوصفه عنوانًا لعدم الرضا عن الوضع القائم وأفقًا للأمل في التغيير.

وإن لم تكن شروط التحول الإبستيمي قد تهيّأت للمجتمعات العربيّة الإسلاميّة في الماضي، على اعتبار أنها قد أُقحمت قسرًا في زمن الحداثة، مما أفرز توتّرًا غير صحي مع قيمها الغربية والكونية من جهة، وولّد عودةً للموروث العربيّ الإسلاميّ على نحوٍ سلبيّ ورجعي من جهةٍ ثانية، ما أعاق طرح سؤال التنوير على نحوٍ متسق، ودرأ تبيئة قيمه وتوطينها، فإنه تلوح اليوم بوادر مهمة للإسهام في إعادة بناء الذات الفردية في السياق العربيّ الإسلاميّ على أساس منهجية النقد المزدوج الذي اعتمدناه أعلاه، بغرض إعادة إرساء العلاقة العمودية للذات الفردية بالذات العلوية، التي جاءت بها الرسالة المحمدية في تفجرها الأول؛ مسلّحين في هذا الطريق الوعر على نحوٍ خاص بثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والشبكات الاجتماعيّة، والتي تلوح معها إمكانات معرفية هائلة، وفرصًا جمّة لإرساء شروط هذا التحّول الإبستيمي.

إنّ طرح سؤال التنوير في سياقاتنا المعاصرة يعني مساءلة إمكانيات الولوج إلى عوالم الفردية والحرية وتحرير الطاقات الكامنة للإبداع واجتراح سبلٍ مبتكرة للانعتاق من أسر الاستبداد والتبعية إلى مضمار التطور والمنافسة والمشاركة في النقاشات الكونية الجارية بشأن قضايا مركزية في عالم اليوم تهمّ الهجرة والتعددية والعيش المشترك والعنف والإرهاب واستدامة النماذج الاقتصادية والبيئية. ومن ثمّ، فالخوض في ذلك ليس ترفًا فكريًا بل ضرورةً اجتماعيّة ملحّة.

قائمة المراجع

ابن باجة، أبو عبد الله محمد يزيد. السنن. الجبيل: دار الصديق، 2010.

ابن تيمية، تقي الدين أحمد. مجموعة الفتاوى. ط3. المنصورة: دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، 2005.

ابن حزم، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد. المحلى. بيروت: دار الآفاق الجديدة، د.ت..

ابن حنبل، أحمد بن محمد. المسند. القاهرة: دار الحديث، 1995.

ابن منظور، محمد بن مكرم بن علي أبو الفضل جمال الدين. لسان العرب. موقع «لسان العرب»، شوهد في 30/10/2019، في: https://bit.ly/2qaMpx4

أبو داود، سليمان الأزدي. سنن أبو داود. بيروت: دار ابن حزم، 1997.

أرسطو. السياسات. ترجمة الأب أوغسطين بربارة. بيروت: اليونسكو، 1957.

البخاري، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل. صحيح البخاري. دمشق/بيروت: دار ابن كثير، 2002.

البغوي، أبو محمد الحسين بن مسعود. تفسير البغوي (معالم التنزيل). بيروت: دار ابن حزم، 2002.

الترمذي، أبو عيسى محمد. سنن الترمذي. القاهرة: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، 1962.

الحاكم النيسابوري، أبو عبد الله محمد بن عبد الله. المستدرك على الصحيحين. بيروت: دار المعرفة، 2006.

الحبابي، محمد عزيز. الشخصانية الإسلاميّة. مكتبة الدراسات الفلسفيّة، ط2. القاهرة: دار المعارف، د.ت..

حمودي، عبد الله. «سؤال المنهج في راهنيتنا: اجتهادات في تصور علوم اجتماعيّة وإنسانيّة عربيّة». محاضرة افتتاحية لمؤتمر العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة - الدورة السابعة، المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة (23-25 آذار/مارس 2019).

__________. الشيخ والمريد: النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربيّة الحديثة. ترجمة عبد الحميد جحفة. الدار البيضاء: دار توبقال لنشر، 2000.

الخطيبي، عبد الكبير. الكاتب وظله. منشورات الاختلاف، 2008.

خليف، يوسف. الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي. ط 4. القاهرة: دار المعارف، 2010.

دياني، مراد. حرية، مساواة، اندماج اجتماعيّ. الدوحة/ بيروت: المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، 2014.

__________. حرية، مساواة، كرامة إنسانيّة. الدوحة/ بيروت: المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، 2016.

الرفاعي، عبد الجبار. الدين والظمأ الأنطولوجي. بغداد: دار التنوير، 2016.

الشاطبي، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي. الاعتصام. القاهرة: مكتبة التوحيد، 2000.

شرابي، هشام. النقد الحضاري للمجتمع العربيّ في نهاية القرن العشرين. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيّة، 1990.

الطبراني، أبو القاسم سليمان بن أحمد. المعجم الكبير. القاهرة: مكتبة ابن تيمية، د.ت..

الطحاوي، أبو جعفر الوراق. «متن العقيدة الطحاوية». موقع أهل السنة والجماعة. شوهد في 8/ 1/ 2019؛ في: https://bit.ly/2lQlS5w

الفاسي، علال. الحرية. الرباط: مطبعة الرسالة، 1977.

مسلم، أبو الحسين بن الحجاج القشيري النيسابوري. صحيح مسلم. القاهرة: دار إحياء الكتب العربيّة، 1991.

المصباحي، محمد. الذات في الفكر العربيّ الإسلاميّ. الدوحة/ بيروت: المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، 2017.

Berlin, Isaiah. «Two Concepts of Liberty.» in: Isaiah Berlin, Four Essays on Liberty. Oxford: Oxford University Press, 1969.

Bourdieu, Pierre. “Les trois états du capital culturel.” Actes de la recherche en sciences sociales, no. 30 (1979), p. 3-6.

Déclaration des Droits de l’Homme et du Citoyen de 1789. Article 4, at: https://bit.ly/2MLDQQn

Ferguson, Adam. An Essay on the History of Civil Society. Part Third. Section II. Duncan Forbes edition. Edinburgh University Press, 1966 [1767].

Foucault, Michel. Les Mots et les Choses. Paris: Gallimard, 1966.

Fraser, Nancy. “Justice sociale, redistribution et reconnaissance.” Revue du MAUSS, vol. 1, no 23 (2004).

__________. Qu’est-ce que la justice sociale ? Reconnaissance et redistribution. Paris: La Découverte, 2011.

Gallegos Gabilondo, Simón. “Philosophie et colonialisme chez Anquetil-Duperron.” Biblioteca Elettronica su Montesquieu e Dintorni (2010), accessed on 6/10/2019, at: https://bit.ly/334l8Kz

Habermas, Jürgen. «La modernité, un projet inachevé.» Critique. no. 413 (Octobre 1981), p. 950-967.

__________. Discours philosophique de la modernité. Paris: Gallimard, 1988.

Hall, Stuart. “The West and the Rest: Discourse and Power.” in: Bram Gieben & Stuart Hall (dir.). The Formations of Modernity. Cambridge: Polity Press, 1992, p. 275-332.

Honneth, Axel. La lutte pour la reconnaissance. Paris: Editions du Cerf, 2000.

Jaulin, Robert. La décivilisation: Politique et pratique de l’ethnocide. Bruxelles: Editions Complexe, 1974.

Koyré, Alexandre. From the Closed World to the Infinite Universe. Baltimore, Md.: Johns Hopkins University Press [1957] 1968.

Mouffe, Chantal. Pour un populisme de gauche. Pauline Colonna d’Istria (trad.). Paris: Albin Michel, 2018.

Nemo, Philippe. Qu’est-ce que l’Occident ?. Paris: PUF, 2004.

Pascon, Paul. “La nature composite de la société marocaine.” Lamalif, no. 17 (Décembre 1967).

Piketty, Thomas. Le Capital au XXIe siècle. Paris: Seuil, 2013.

__________. Capital et idéologie. Paris: Seuil, 2019.

Popper, Karl. The Open Society and its Enemies. [London]: Routledge, [1945] 2002.

Rawls, John. A Theory of Justice. Cambridge. MA: The Belknap Press of Harvard University Press, 1971.

__________. Justice as Fairness: A Restatement. Cambridge, MA: Harvard University Press, 2001.

Rufin, Jean-Christophe. L’Empire et les nouveaux barbares. Paris: Jean-Claude Lattès, 1991.

Sen, Amartya. Inequality Reexamined. Oxford: Oxford University Press, 1992.

Von Wright, Georg. The Tree of Knowledge and other Essays. Leiden: Brill, 1993.

Weber, Max. The Protestant Ethic and the Spirit of Capitalism. New York: Oxford University Press, [1905] 2010.


1 محمد المصباحي، الذات في الفكر العربيّ الإسلاميّ (الدوحة/ بيروت: المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، 2017)، ص 29.

2 المرجع نفسه، ص 24.

3 يعبّر مفهوم «الإبستيمية» Epistémè، كما بلوره ميشال فوكو في كتاب الكلمات والأشياء، عن شبكة المفاهيم المترسبة في اللّاوعي الجماعي على المدى الطويل والتي تحكم الشروط القبلية لانبثاق المعرفة. ينظر في ذلك:

Michel Foucault, Les Mots et les Choses (Paris: Gallimard, 1966).

4 نسبةً إلى عروة بن الورد وصفته، والذي كان مَثابةً لصعاليك العرب ومتمردي قبائلها، يجمع مَحاويجهم الضعفاء في «كنيفٍ»، ويُغِيرُ بأقويائهم، ثم يقتسمون معهم الغنائم، في عرين هذه «الاشتراكية»، حتى يتقوَّى الجميع، وينخرط في سلك الغزاة.

5 مثل حالة الشنفرى الأزدي، الذي انتبذ قومه وعشيرته، جاعلًا من حيوانات الغابة أهلًا له دون أهله، معتبرًا أنهم أكثر وفاءً وألفةً مهما كانت شراستهم؛ ونجده في ذلك يقول:

ولي دونكمْ أهْلونَ؛ سِيدٌ عَمَلَّسٌ ** وأرْقـطُ زهْـلـولٌ، وعـرْفـاءُ جَـيْـألُ

همُ الأهلُ؛ لا مُستوْدَع السرِّ ذائعٌ ** لديهمْ، ولا الجاني، بما جرَّ، يُخْذَلُ.

6 للاستزادة في ذلك، ينظر: يوسف خليف، الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي، ط 4 (القاهرة: دار المعارف، 2010).

7 وهو ما تعبّر عنه بجلاءٍ الآية القرآنية: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ (الأعراف 7: 157).

8 يتطابق هذا المنظور مع المنظور المسيحي البروتستانتي، كما بيّنه ماكس فيبر، والقائم على المعنى الجديد الذي منحه لوثر لمصطلح Beruf في ترجمته للكتاب المقدس إلى الألمانيّة، والذي يؤكّد على إضفاء القيمة على العمل المهني الذي ربطه بالنداء الداخلي للإنسان المؤمن.

9 وهي الفردية التي نجد المتن القرآني يؤكّد عليها في مواضع عدة: ﴿وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا﴾ (مريم 19: 80)؛ ﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا﴾ (مريم 19: 95)؛ ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ (الأنعام 6: 94)؛ ﴿وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا﴾ (الأنعام 6: 164)؛ ﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ (ترد خمس مرات). كما نجد لها أيضًا في المتن القرآني تجسيداتٌ بأشكال مختلفة للذاتيّة الفردية، مثلًا في القصص القرآني في صورة النبي-الفرد المتحرّر من سلطة الموروث والمجتمع، والمحدث قطيعةً مع التقاليد، والدافع برؤيةٍ مغايرة للعالم، والحامل مصيره بين يديه متجشّمًا الاصطدام بالمجتمع وبأعرافه وبتماثلاته الاجتماعيّة، ومنها: ﴿إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ (الأنعام 6: 74)؛ ﴿يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ﴾ (الأنعام 6: 78)؛ ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾ (النحل 16: 120)؛ ﴿أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ (الأنبياء 21: 67)؛ ﴿إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ﴾ (الزخرف 43: 26). وهو ما يتجلّى أيضًا في نظام القصاص وديّة المقتول. فقد أبطلت الرسالة المحمدية نظام الجاهلية في القصاص الذي كان يمتدّ إلى العشيرة بأسرها، وجعلته فرديًا وفرضت المماثلة والمساواة في القتلى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى، الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَى﴾ (البقرة 2: 178).

10 للاستزادة بشأن هذا المنظر لتأصيل الذاتيّة في الرسالة المحمدية، يُنظر: محمد عزيز الحبابي، الشخصانية الإسلاميّة، مكتبة الدراسات الفلسفيّة، ط 2 (القاهرة: دار المعارف، د.ت.).

11 ومنها مثلًا: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم»، يُنظر: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، الحديث 7084 (دمشق/بيروت: دار ابن كثير، 2002)، ص 1753؛ «فعليك بالجماعة، فإنَّما يأكل الذئب من الغنم القاصية»، يُنظر: أبو داود سليمان الأزدي، سنن أبو داود، الجزء الأول، الحديث 547 (بيروت: دار ابن حزم، 1997)، ص 264؛ «البركة في ثلاثة: في الجماعة، والثريد، والسحور»، يُنظر: أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، المعجم الكبير، الجزء السادس، الحديث 6127 (القاهرة: مكتبة ابن تيمية، د.ت.)، ص 251؛ «لا يحلُّ دم امرئٍ مسلمٍ يشهد أن لا إله إلا الله وأنِّي رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيِّب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة»، يُنظر: البخاري، صحيح البخاري، الحديث 6878، ص 1701؛ «اثنان خير من واحد وثلاث خير من اثنين وأربعة خير من ثلاثة، فعليكم بالجماعة فإنّ الله لن يجمع أمتي إلا على هدى»، يُنظر: أحمد بن محمد بن حنبل، المسند، الجزء الخامس عشر، الحديث 21190 (القاهرة: دار الحديث، 1995)، ص 480؛ «إن الله أجاركم من ثلاث خلال أن لا يدعو عليكم نبيكم فتهلكوا جميعًا، وأن لا يظهر أهل الباطل على أهل الحق، وأن لا تجتمعوا على ضلالة»، يُنظر: أبو داود، سنن أبو داود، مصدر سابق، الحديث 4253، ص 292؛ «إن أمتي لا تجتمع على ضلالة، فإذا رأيتم اختلافا فعليكم بالسواد الأعظم»، يُنظر: أبو عبد الله محمد يزيد بن باجة، السنن، الحديث 3950 (الجبيل: دار الصديق، 2010، ص 643)؛ «لا يجمع الله هذه الأمة على الضلالة أبدًا، ويد الله على الجماعة، فاتبعوا السواد الأعظم، فإنه من شذّ شذ في النار»، يُنظر: أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، الحديث 406، (بيروت: دار المعرفة، 2006)، ص 318؛ «عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة، فإنّ الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد من أراد

بحبوحة الجنة، فيلزم الجماعة»، يُنظر: أبو عيسى محمد الترمذي، سنن الترمذي، الجزء الرابع، الحديث 2165 (القاهرة: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، 1962)، ص 465؛ «وأنا أمركم بخمس أمرني الله بهن: الجماعة والسمع والطاعة والجهاد والهجرة والجماعة، فإنه من فارق الجماعة قيد شبرٍ فقد خلع رَبقة الإسلام من عنقه إلا أن يرجع»، يُنظر: الترمذي، سنن الترمذي، الجزء الخامس، الحديث 2863، ص 148-149؛ «من خرج من الطاعة وفارق الجماعة ثم مات مات ميتةً جاهلية، ومن خرج من أمتي على أمتي يضرب برها وفاجرها لا يتحاش من مؤمنها ولا يفي بذي عهدها فليس مني»، يُنظر: أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، صحيح مسلم، الحديث 1848 (القاهرة: دار إحياء الكتب العربيّة، 1991)، ص 1476؛ «إنه ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرّق أمر هذه الأمة، وهي جميع، فاضربوه بالسيف، كائنًا من كان»، يُنظر: مسلم، صحيح مسلم، الحديث 1852، ص 1479؛ «من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، فمات، مات مِيتةً جاهليَّة»؛ يُنظر: مسلم، صحيح مسلم، الحديث 1848، ص 1476.

12 وهو ما نجده عند الشاطبي، على سبيل المثال لا الحصر، من أنّ «الجماعة» هي: «السواد الأعظم من أهل الإسلام، وهو الذي يدلّ عليه كلام أبي غالب، إنّ السواد الأعظم هم الناجون من الفرق، فما كانوا عليه من أمر دينهم فهو الحق، ومن خالفهم مات ميتةً جاهلية، سواء خالفهم في شيء من الشريعة، أو في إمامهم وسلطانهم، فهو مخالف للحق»: أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي، الاعتصام، المجلد الثالث (القاهرة: مكتبة التوحيد، 2000)، ص 300.

13 في العقيدة الطحاوية، المسمّاة «عقيدة أهل السنّة والجماعة»، والتي ما تزال تمثّل إلى اليوم القلب النابض للمنظومة السلفية، نقرأ: «ولا نخالفُ جماعةَ المسلمينَ (...) ونتّبعُ السنَّةَ والجماعةَ، ونجتنبُ الشذوذَ والخِلاف والفُرقة (...) ونرى الجماعةَ حقَّا وصوابًا، والفرقةَ زيغًا وعذابًا»: أبو جعفر الوراق الطحاوي، «متن العقيدة الطحاوية»، موقع أهل السنة والجماعة، شوهد في 08/01/2019؛ في: https://bit.ly/2lQlS5w

14 دون أن نخوض هنا في بعض الجوانب المتصلة بموضوع البحث والمرتبطة مثلًا بتحوير الإبستيمية السلفية لبعض أركان العقيدة لتوظيفها سياسيًّا، من مثل ربط ضروب التغلّب والجور والظلم بالإيمان بالقضاء والقدر، من باب أنّ «كلّ شيءٍ بقضاء وقدر، كُتب في اللوح المحفوظ، ويجري بمشيئة إلهية».

15 «ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل: تفرق بنو إسرائيل على اثنتين وسبعين ملة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين تزيد عليهم كلها في النار إلا ملة واحدة فقالوا: من هذه الملة الواحدة؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي»: الترمذي، الجزء الخامس، الحديث 2641، ص 26.

16 ومنه ابن تيمية مثلًا لما سئل عن الفرقة الناجية فقال: «ولهذا وصف الفرقة الناجية بأنها أهل السنة والجماعة، وهم الجمهور الأكبر، والسواد الأعظم، وأما الفرق الباقية فإنهم أهل الشذوذ والتفرق والبدع والأهواء. ولا تبلغ الفرقة من هؤلاء قريبًا من مبلغ الفرقة الناجية، فضلًا عن أن تكون بقدرها بل قد تكون الفرقة منها في غاية القلة. وشعار هذه الفرق مفارقة الكتاب والسنة والإجماع. فمن قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة والجماعة»: تقي الدين أحمد بن تيمية الحراني، مجموعة الفتاوى، الجزء الثالث، ط 3 (المنصورة: دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، 2005)، ص 215.

17 رابطين ذلك بالآية الكريمة: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا﴾ (آل عمران: 103). وفي البناء الأصولي الموازي، عن ابن مسعود: «عليكم بالجماعة فإنها حبل الله الذي أمر الله به، وإن ما تكرهون في الجماعة والطاعة خير مما تحبون في الفرقة»: أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي، تفسير البغوي (معالم التنزيل) (بيروت: دار ابن حزم، 2002)، ص 229.

18 ابن تيمية، الجزء الثاني العشرون، ص 211.

19 «تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلْأَمِيرِ، وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ، وَأُخِذَ مَالُكَ، فَاسْمَعْ وَأَطِعْ»: مسلم، الحديث 1847، ص 1476.

20 في لسان العرب: «الحُرّ بالضم: نقيض العبد والجمع أحرارٌ وحِرار. والحُرّة: نقيض الأَمَة والجمع حرائر. (…) المحرّر الذي جعل من العبيد حُرًّا فأعتق، يُقال حرّ العبد يحرّ حرارة بالفتح أي صار حُرًّا»: محمد بن مكرم بن علي أبو الفضل جمال الدين بن منظور، لسان العرب، موقع «لسان العرب»، شوهد في 30/10/2019، في: https://bit.ly/2qaMpx4

21 كما نجده في بعض المقاربات المعاصرة البارزة، عند أماريتا سين على سبيل المثال:

Cf. Amartya Sen, Inequality Reexamined (Oxford: Oxford University Press, 1992).

22 بخصوص مفهوم «الاستلاب المعمّم» Aliénation généralisée، يُنظر مثلًا:

Paul Pascon, «La nature composite de la société marocaine,» Lamalif, no. 17 (Décembre 1967).

23 يُنظر: عبد الكبير الخطيبي، الكاتب وظله (الجزائر: منشورات الاختلاف، 2008).

24 يُنظر: هشام شرابي، النقد الحضاري للمجتمع العربيّ في نهاية القرن العشرين (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيّة، 1990).

25 يُنظر: عبد الله حمودي، الشيخ والمريد: النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربيّة الحديثة، ترجمة عبد الحميد جحفة (الدار البيضاء: دار توبقال لنشر، 2000).

26 Cf. Pierre Bourdieu, «Les trois états du capital culturel,» Actes de la recherche en sciences sociales, no. 30 (1979), p. 3-6.

27 Max Weber, The Protestant Ethic and the Spirit of Capitalism (New York: Oxford University Press [1905] 2010).

28 والتي كانت تقوم على تصوّرٍ لحرية الروح فحسب، بوصفها مشاركةً في الكونيّة عن طريق العقل، والحرية السياسيّة فقط، بوصفها مشاركةً غالبًا ما تكون إلزاميّة ومقيّدة في الشأن العام. ينظر في ذلك:

Philippe Nemo, Qu’est-ce que l’Occident ? (Paris: PUF, 2004).

29 وهو ما يبرز مثلًا مع شيشرون Cicero الذي جاء بفكرة التطبيق على الكائن البشري بشكلٍ عام لكلمة «شخصيّة» Persona التي تعني في الأصل شخصيات المسرح، يُنظر المرجع نفسه.

30 لاسيّما القطيعة الإبستيمولوجيّة التي أحدثتها الثورة الكوبرنيكيّة، والتي تشير إليها الصيغة الشهيرة لكويري بالمرور «من عالم منغلق إلى كون لانهاية له»، يُنظر:

Alexandre Koyré, From the Closed World to the Infinite Universe (Baltimore, Md.: Johns Hopkins University Press [1957] 1968).

31 عزّزت الثورة الصناعيّة، ولاحقًا «التقسيم العلمي للعمل»، تلبية الاحتياجات الأساسيّة للأفراد، ورفعت من سقف انتظاراتهم وتطلّعاتهم. كما عزز التمدين والتوسع الحضري الواسع الذي شهدته أوروبا في القرن الثامن عشر التطلعات الفردية، وسهّل تخفيف الروابط مع المجتمعات المحليّة والأعراف التي كانت مهيمنةً في البنيات القرويّة. ولاحقًا، ستؤدّي التحولات الديمغرافيّة الأدوار نفسها في تخيف وطأة الروابط التقليديّة الأسريّة والأهليّة، أو فكّها.

32 من المهمّ التأكيد على أنّ مدارس التنوير الغربي ليست على قلبٍ واحد. فعلى سبيل المثال، بتأكيده على «الذات» Self عوض «الأنا» Ego، رام التنوير الإسكتلندي –على خلاف التنوير الفرنسي– التأكيد على أنّ الهوية الشخصية تتشكّل في سياق العلاقات بين-الفردية؛ فهذه الهوية هي غير ممنوحة سلفًا، وإنما تتشكّل وفقًا لانعكاس الصورة المتوقعة من الآخرين. بيد أنّ فلسفات الأنوار السياسيّة تظلّ –على تلوّناتها واختلافاتها البيّنة– تشترك في قواسم مشتركة تشكّل الأرضيّة المعَقْلِنة لحريّةٍ تفاعليّة لا سابق لها.

33 Karl Popper, The Open Society and its Enemies (London: Routledge, [1945] 2002).

34 Adam Ferguson, An Essay on the History of Civil Society, Part Third. Section II, Duncan Forbes edition (Edinburgh: Edinburgh University Press, 1966 [1767]), p. 122.

35 Jürgen Habermas, «La modernité, un projet inachevé», Critique, no. 413 (Octobre 1981), p. 950-967; Jürgen Habermas, Discours philosophique de la modernité (Paris: Gallimard, 1988).

36 عن اتساق هذه الرؤية المانوية («المركز» في مقابل «الأطراف»، أو «الإمبراطورية» في مقابل «البرابرة») إلى اليوم، ينظر:

Jean-Christophe Rufin, L’Empire et les nouveaux barbares (Paris: Jean-Claude Lattès, 1991).

37 Stuart Hall, “The West and the Rest: Discourse and Power”, in: Bram Gieben & Stuart Hall (eds.), The Formations of Modernity (Cambridge: Polity Press, 1992), p. 275-332.

38 مثلًا، فيما يتعلّق بالديمقراطيّة، بوصفها قيمةً كونية، حيث ترى المركزية الغربية أنه من «واجبها» في كلّ مكانٍ في العالم غير الغربي التدخل لتسريع وتيرة «موجهتها الثالثة» و/ أو إزالة العوائق أمامها.

39 لا ترى هذه الإثنية المركزية في «غلبة الجماعة على الفرد» سمةً من سمات المجتمعات العربيّة الإسلاميّة فحسب، بل سمةً قوية ودائمة للمجتمعات التقليدية في دول الجنوب. فمن هذا المنظور، ليس من شأن الآخرين –غير الغرب، أو «البقية»– أن يكونوا جميعًا متماثلين تمامًا فحسب، وإنما أيضًا أن يعيشوا جميعًا تحت هيمنة «الكلية الاجتماعيّة» التي تؤسّس لنظرية «الاستبداد الآسيوي» الكامنة في المخيال الإغريقي والعزيزة على مونتسكيو ومعاصريه ومعاصرينا، والتي تعمل على تبرير الهيمنة الغربية. فإذا كان هؤلاء «البرابرة» يأبون الاستقلالية الفردية والتحرّر ويودّون –بطبيعتهم– أن يكونوا –دومًا– تحت الهيمنة، فيكفي أن يحلّ الأسياد الجُدد محلّ الأسياد القدامى. يُنظر في ذلك مثلًا:

Simón Gallegos Gabilondo, “Philosophie et colonialisme chez Anquetil-Duperron”, Biblioteca Elettronica su Montesquieu e Dintorni (2010), accessed on 6/10/2019, at: https://bit.ly/334l8Kz

40 Georg Von Wright, “The Myth of Progress,” in: Georg Von Wright, The Tree of Knowledge and other Essays (Leiden: Brill, 1993).

وإن كانت «أسطورة التقدم» قد أفضت إلى إخفاقاتٍ اقتصادية واجتماعيّة وبيئية تهدّد مستقبل البشرية جمعاء، فإنها قد أفلحت في الآن ذاته في تحقيق الرفاه والازدهار لفئات واسعة في مجتمعاتها. ولذا من المهم التأكيد على أنّ معارضة «أسطورة التقدّم» لا تتنافى مع الإيمان بضرورة توظيف العلم والتكنولوجيا على نحوٍ مكثف لتحسين حياة الملايين من البشر الذين يعيشون في الزّمن الحاضر حياةً بائسة. فالأمر لا يتعلّق برفض التقدّم في حدّ ذاته بقدر ما يتعلّق بـ «نوعٍّ» آخر من التقدّم، أكثر ملائمةً واستدامةً واستيعابًا للتعددية. وبتعبير آخر، لا يتعلّق الأمر برفض الحداثة، وإنما بالدعوة لنوع آخر من الحداثة، لنقل «ما-بعد الحداثة».

41 في أطروحة «الغرب الأُحادي»، يُنظر مثلًا:

Robert Jaulin, La décivilisation: Politique et pratique de l’ethnocide (Bruxelles: Editions Complexe, 1974).

42 كما يعبّر عنها مثلًا النجاح الهائل الذي لاقته أعمال الاقتصادي المعاصر طوما بيكيتي بشأن استدامة الإشكالية البنيوية الممتدّة لقرونٍ للمساواتية وتكافؤ الفرص في العالم الغربي الحديث. وتتمثّل إحدى الأفكار الأساسيّة عند بيكيتي في أنّ ارتفاع عدم المساواة في المجتمعات الغربية طيلة القرنين الماضيين هو بنيوي ولا يرتبط بالفروق في «الجدارة والاستحقاق» وإنما بالفروق في أصول الملكية؛ وهو ما يأتي على خلاف «الأسطورة» الغربية المساواتية القائلة إنّ الثراء في متناول الجميع، وإنّ تكافؤ الفرص مكفول للجميع. ومن ثمّ فقد لاقت أعمال الاقتصادي الفرنسي نجاحًا منقطع النظير، إذ بيع من كتابه رأس المال في القرن الحادي والعشرين أكثر من مليونين ونصف مليون نسخة. وقد صدر خريف عام 2019 كتابه رأس المال والأيديولوجية الذي يأتي في السياق ذاته:

Thomas Piketty, Le Capital au XXIe siècle (Paris: Seuil, 2013); Thomas Piketty, Capital et idéologie (Paris: Seuil, 2019).

43 بالنظر إلى درء النماذج الثقافية المؤسّسية السائدة عن الأفراد أو المجموعات التمتع بوضعٍ اجتماعيّ يكرّسهم على قدم المساواة مع أيّ فرد أو مجموعة أخرى في المشاركة في الحياة الاجتماعيّة. فالشّعور بالاحتقار النّاجم عن عدم المساواة وعن الظّلم وعن التمييز الاجتماعيّ يدفع هذه «الأقليات» والفئات الاجتماعيّة ضحية التمييز إلى المقاومة والمواجهة الاجتماعيّة، أي إلى «النّضال من أجل الاعتراف»، بالمفهوم الهيغلي. ينظر في ذلك:

Axel Honneth, La lutte pour la reconnaissance (Paris: Editions du Cerf, 2000), p. 162.

ولا تتمثل أهمية بُعد «الاعتراف» في الأبعاد الهوياتية والرمزية فحسب، وإنما أيضًا في الأبعاد الاقتصادية والاجتماعيّة. ينظر في ذلك:

Nancy Fraser, «Justice sociale, redistribution et reconnaissance,» Revue du MAUSS, vol. 1, no 23 (2004); Nancy Fraser, Qu’est-ce que la justice sociale ? Reconnaissance et redistribution (Paris: La Découverte, 2011).

44 في هذه المنهجية، يُنظر: عبد الله حمودي، «سؤال المنهج في راهنيتنا: اجتهادات في تصور علوم اجتماعيّة وإنسانيّة عربيّة»، محاضرة افتتاحية لمؤتمر العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة - الدورة السابعة، المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة (23-25 آذار/مارس 2019).

45 بالتركيز على بعدها الاجتماعيّ، ودون الذهاب بعيدًا في سبر ماهية وجود الذات وسؤال الوعي والأنا والعقل، وأسئلة العلاقة بالذات الميتافيزقية. لمثل هذا النقاش، ينظر: عبد الجبار الرفاعي، الدين والظمأ الأنطولوجي (بغداد: دار التنوير، 2016).

46 ذلك أنّ أيّة مقاربةٍ دينيّة وميتافيزقية حصرية لسؤال الحرية هي محاولة «إحلال اللّامتناهي في المتناهي أو تجريد كلّ موضوعٍ في المطلق»: علال الفاسي، الحرية (الرباط: مطبعة الرسالة، 1977)، ص 8.

47 كما أنه لا شيء يمنع الفرد الذي يحقّق ذاتيّته واستقلاليته من التواصل –بحرية تامّة– في المجال الخاص على مستويات وسيطة meso، أو مع مستويات متسامية trans؛ مع ما قد يفرزه ذلك –على نحوٍ محدود– من تماسٍّ مجدّدٍ لروح الديمقراطيّة بين المجالين الخاص والعام.

48 يتجلّى هذا الاتساق مثلًا في نظرية «ديمقراطيّة امتلاك الملكيّة» Property-Owning Democracy التي بلورها جيمس ميد في كتاب النجاعة والمساواة وتوزيع الملكية في عام 1964، واستعادها جون راولز في كتابيه نظرية في العدالة في عام 1971، والعدالة صنو الإنصاف في عام 2001، بوصفها الإطار الأمثل لتحقّق مبادئ العدالة الاجتماعيّة، من منطلق ديمقراطيّة اقتصادية تقوم على مبدأ إعادة توزيع الثّروة Pre-distribution بدلًا من مُجرّد إعادة توزيع الدّخل Re-distribution. للتوسّع في هذا المنظور، ينظر: مراد دياني، حرية، مساواة، كرامة إنسانيّة (الدوحة/ بيروت: المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، 2016).

49 هذا المنظور مخالف لفرضية «حجاب الجهل» عند جون رولز، الذي يحجب عن الأفراد المتعاقدين –في وضعٍ أصلي افتراضي– كلّ خصائصهم الشخصية أو الاجتماعيّة، بحيث لا يكون أحدٌ قادرًا –خلال عمليّة التداول العقلاني– على تصميم مبادئ تخدم وضعيّته الخاصّة، وأنّ مبادئ العدالة تكون نتيجةً لمداولةٍ منصفة؛ إذ أنه لا يعني «درء» معتقدات الأفراد وتجلّياتها في المجال العام بالكامل، كما تنحو إلى ذلك ضروب اللائكيات «الصلبة»، وإنما فقط يحملها إلى خلفية المجال الخاص (بما فيه المجال الأهلي) للأفراد. ومن جهةٍ أخرى، إن كانت «خوصصة الحياة الشخصية» تعني إنشاء فصلٍ بين السلوك الاجتماعيّ والسلوك الخاص، فهي تفيد أيضًا الاستيعاب الداخلي من جانب الفرد للتحكّم الاجتماعيّ. ما يعني أنّ علاقات الهيمنة تفقد شكلها الشخصي جزئيًا لتتخّذ شكلًا موضوعيّا يضمن إعادة إنتاجها بما يتجاوز الوعي المباشر للأفراد، على نحوٍ يضمن الاتساق الاجتماعيّ اللاحق، واستدامته.

50 كما يعبّر عنه «إعلان حقوق الإنسان والمواطن» الذي أصدرته الجمعية التّأسيسية الفرنسية عام 1789 في فصله الرابع: «الحرية هي أن تكون قادرًا على فعل أيّ شيء لا يُؤذي الآخرين»:

Déclaration des Droits de l’Homme et du Citoyen de 1789, Article 4, at: https://bit.ly/2MLDQQn

51 لا ينبغي أن يُفهم غياب القهر والإكراه فقط بمعنى انعدام التدخّل «المُتعمّد» من لَدُن الغير، سواء كان فرديّا أو جماعيّا. فالأعمى الذي حُرم حاسّة البصر ليس «حُرًّا» في تحصيل العلم والمعرفة بالطّرق التقليدية أو في التمتّع بمخالب الطبيعة أو غيرها، على الرّغم من ألّا أحد قد «تعمّد» حرمانه من ذلك.

52 يتمثّل التّمييز بين الحرية «السلبيّة» والحرية «الإيجابية»، وفقًا لأشعيا برلين، في أنّ الحرية «السلبيّة» تتطلّب غياب القسر أو الإكراه («ألّا يكون المرء عبدًا لأحد»)، في حين أنها في تصوّرها «الإيجابي» تنطوي على فكرة تحقيق الطبيعة البشرية الحقيقية («أن يكون المرء سيّدًا لنفسه»):

Isaiah Berlin, “Two Concepts of Liberty”, in: Isaiah Berlin, Four Essays on Liberty (Oxford: Oxford University Press, 1969).

ولا داعٍ للتـأكيد أنّ الحرية الإيجابية والحرية السلبيّة لا تتعارضان إطلاقًا، بل إنّ تحقّقهما معًا هو ما يضمن ممارسة الحرية الفردية على نحوٍ فعلي.

53 John Rawls, A Theory of Justice (Cambridge, MA: The Belknap Press of Harvard University Press, 1971), p. 302.

54 ينظر في ذلك: مراد دياني، حرية، مساواة، اندماج اجتماعيّ (الدوحة/ بيروت: المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، 2014).

55 وهو ما نجده أيضًا في العديد من الموروثات القديمة، مثلًا في قول أرسطو: «وليست العدالة سوى القضاء الحقّ»: أرسطو، السياسات، ترجمة الأب أوغسطين بربارة (بيروت: اليونسكو، 1957)، ص 134.

56 من قبيل الرُّؤى الفقهية التقليدية التي تختزل العدل في النّظام الذي يُؤمّن للناس جميعًا «حدّ الكفاف»، الذي يُعرِّفه ابن حزم بقوله: «يُقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لا بدّ منه، ومن اللّباس للشّتاء والصّيف بمثل ذلك، ومسكن يَقِيهم من المطر والشّمس وعيون المارّة»: أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد ابن حزم، المحلى، الجزء الأول (بيروت: دار الآفاق الجديدة، د.ت.)، ص 156.

57 Rawls, A Theory of Justice, op. cit.; John Rawls, Justice as Fairness: A Restatement (Cambridge, MA: Harvard University Press, 2001).

58 ينظر: دياني، حرية، مساواة، اندماج اجتماعيّ.

59 من مثل المقاربات ما - بعد الماركسية لتيار «شعبوية اليسار». ينظر في ذلك مثلًا:

Chantal Mouffe, Pour un populisme de gauche, Pauline Colonna d’Istria (trad.) (Paris: Albin Michel, 2018).