الوحي القرآني بوصفه كلام الله في خطاب إنسانيّ: مقاربة أنثروبولوجيّة

مهند خورشيد*

doi:10.17879/mjiphs-2022-3880

تُعالج هذه الورقة موضوع الوحي في السياق الإسلامي بوصفه كلام الله في خطاب إنسانيّ، في محاولة لإعادة تعريف الوحي من خلال اعتماد مفهومي الحرية والرحمة. وهي بذلك تسعى لتجاوز مأزقٍ إبستمولوجيّ مُزدوج أسفرتْ عنه المقاربة التراثية الإسلامية والمقاربة التاريخية الفيلولوجية. ومن ثم، فإنَّ الورقة ستتطرق للقضايا الآتية: ما هي معقوليّة الحديث عن التجلي الإلهي بغض النظر عن السياقات التي يحدث فيها؟ كما يتبادر السؤال عن إمكانية اعتبار الوحي مصدرًا معرفيًّا، بحيث يكون مُحتواه موضوعًا للبحث العلميّ، فهل الوحي ضرورة معرفيّة أم مُجرّد تذكير بمعارف عقليّة؟ وما هي الكيفية التي يتم بها هذا التواصل وِفقَ الرؤية الإسلاميّة؟ إنَّ السؤال عن معقوليّة الحديث عن تواصل السماء مع الأرض يتعلّق أيضا بمبحث إبستمولوجيّ يتناول شروط إمكانيّة تحقق معارف دينيّة مبنيّة على الوحي؛ أمّا السؤال الثاني فيمسّ بشكلٍ جوهريٍّ علاقة الدين بالعقل، التي يُـمكن أن تُؤسس عليها مقولتا الحُرية والرحمة باعتبارهما ركنين أساسيَّين في إعادة تعريف الوحي؛ في حين أسعى في السؤال الأخير إلى تقديم قراءة جديدة تسمح بإعادة تعريف الوحي بوصفه تجليًّا إلهيًّا، وربط هذه المُحاولة بزمننا الراهن من خلال تقديم مقاربة هيرمينوطيقية تدمج بين الدراسات اللاهوتية والتاريخيّة للقرآن.

كلمات مفتاحية: وحي؛ تجلي إلهي؛ رحمة؛ مقاربة تاريخية-ثيولوجية؛ هيرمينوطيقا

* مدير المعهد العالي للدراسات الإسلاميّة Zentrum für Islamische Theologie وأستاذ الدراسات القرآنية والتربية الدينيّة بجامعة مونستر، ألمانيا.

The Qur’anic Revelation as God’s Word in Human Discourse

An Anthropological Approach

Mouhanad Khorchide*

This paper deals with the concept of revelation in the Islamic context as the word of God in a human discourse, in an attempt to redefine revelation by adopting the concept of freedom and mercy. Thus, it seeks to overcome a dual epistemological dilemma that resulted from the Islamic tradition approach and the philological historical approach. Therefore, the paper deal with the following issues: What is the reasonability of talking about the divine manifestation regardless of the contexts in which it occurs? Is revelation a cognitive necessity or just a reminder of rational knowledge? And how is the divine manifestation carried out according to the Islamic vision? The first question relates to an epistemological issue that deals with the conditions for the possibility of realizing religious knowledge based on revelation; as for the second question, it fundamentally deals with the relationship between religion and reason, relying on the concepts of freedom and mercy as essential pillars in the redefinition of revelation; while I seek in the last question to present a new approach that enables the redefinition of revelation as a divine manifestation, and to relate this attempt to our present time by using a hermeneutic approach to the Qur’an.

Keywords: Revelation; Divine manifestation; Mercy; Historical-theological approach;Hermeneutics

Abstract:

* Head of the Center for Islamic Theology and Professor of Qur’anic studies at the University of Münster.

مدخل

يُعدُّ الوحي (Offenbarung, Revelation) تعبيرًا إيمانيًّا عن تجلي الله للإنسان1، وهذا ما يجعل اللاهوت الإسلاميّ الذي يعتبر القرآن وحيًا إلهيًّا، لاهوتا قائمًا على فكرة التَّجلي الإلهي ومُتأسسًا عليها. لقد عرفتْ العرب قبل الإسلام مُفردة «وحي» باعتبارها كلام الله إلى أنبيائه2، ومع ظهور الإسلام أصبح القرآن مُرادفًا للوحي، باعتباره كلام الله المُوجه إلى جماعة المؤمنين. واستنادًا على هذا المعنى عدَّ علماء المسلمين القرآن المصدر الأساسيّ للإسلام3، فهو على حد وصفهم «كلية الشريعة وعمدتها»4. غير أنَّ هذه المقولة كثيرًا ما تُستخدم في سياق فِقْهيّ يجعل من القُرآن مصدرًا للتشريع الإسلاميّ. ما أحاول القيام به في هذه الدراسة هو الابتعاد عن اختزال الوحي في وظيفة تشريعيّة، وهذا لا يعني عدم قيامه بهذه الوظيفة، إلا أنَّ اقتصار فهم القرآن بكونه مصدرًا لاسْتنباط الأحكام التشريعيّة، يجعل من عمليّة التَّجلي الإلهي مُجرّد إرسال مجموعة تعليمات تشريعيّة مِن الله إلى الإنسان5؛ بيد أنَّها أعمق من ذلك، كما تشهد عل ذلك نظرة استقرائيّة للقرآن، إذ هي تجلي الله ذاته للإنسان6، مُفصحًا بذلك عن إرادة التواصل معه.

إنَّ الحديث عن الوحي هو إذن حديث عن تواصل الله مع الإنسان، المتعالي مع الحاضر، غير المشروط مع المشروط، المطلق مع النسبيّ. وينتج عن ذلك ثلاثة أسئلة: ما هي معقوليّة الحديث عن مثل هذا التواصل؟ كما يتبادر السؤال عن إمكانية اعتبار الوحي مصدرًا معرفيًّا، بحيث يكون مُحتواه موضوعًا للبحث العلميّ، فهل الوحي ضرورة معرفيّة أم مُجرّد تذكير بمعارف عقليّة؟ وكيف يتم هذا التواصل وِفقَ الرؤية الإسلاميّة بشكل يسمح لنا أن نُدرك غايته ونفهم محتواه اليوم؟

إنَّ السؤال عن معقوليّة الحديث عن تواصل السماء مع الأرض يتعلّق أيضا بمبحث إبستمولوجيّ يتناول شروط إمكانيّة تحقق معارف دينيّة مبنيّة على الوحي؛ أمّا السؤال الثاني فيمسّ بشكلٍ جوهريٍّ علاقة الدين بالعقل، وعلاقة المعرفة الدينيّة بتلك العقليّة عن مفهوم الوحي؛ أمَّا السؤال الأخير، فهو سؤال عن علاقة الله بالإنسان والإنسان بالله، وله ارتباط بهيرمينوطيقا القرآن الكريم حين يكون السؤال عن كيفيّة فهم الوحي اليوم.

هذه الأسئلة الثلاث هي موضوع هذه الورقة التي تتكون من أربعة محاور، الأول فلسفي يُعالج علاقة الوحي بالعقل والثاني ثيولوجي يسأل عن علاقة الله بالإنسان وعن عمل الله في التاريخ وذلك لمحاولة فهم عمليّة الوحي، والثالث والرابع هيرمينوطيقي يقترح مدخلًا ثيولوجيًّا تاريخيًّا لفهم القرآن الكريم.

أولا. علاقة الوحي بالعقل

1. علاقة المعرفة الدينيّة بالمعرفة العقليّة

يتميز العصر الحديث بكونه عصر مساءلة اليقينيّات والسلطات جميعها7. لم تنج الكنيسة من هذا التحول، حيث فقدت الكثير من قوتها بسبب الخلافات الداخلية والانشقاقات المذهبية اللّتان أسفرتا عن حروب دينيّة عانت منها أوروبا لعقود طويلة. كما أدى التقدم العلمي والاجتماعي في أوروبا إلى وضع علامات استفهام كثيرة على ما كان يبدو حينها من المُسلّمَات والبداهات التي لا تخضع للنقد أو المساءلة8. ولم تكن العقلانيّة بمعزل عن هذه المساءلة، إذ خضعت أيضا للاختبار النقدي الذاتي وذلك من خلال قاعدة المراجعات العقليّة النقدية لذاتها kritische Selbstprüfung der Vernunft. بهذا الشكل حدَّد «التنوير» بعضا مِن معالمه باعتباره المسعى المُستمر للاختبار النقدي الذاتي9، فهو يرى في العقلانيّة المرجع الوحيد، الذي يُساعد في تحديد معالم طريقنا في هذا العالم بشكل مُستقل. غير أنَّها ليست عقلانيّة مُطلقة، بل «عقلانيّة نقدية» تضع ذاتها باستمرار موضع المساءلة. إذ لا يعتمد التنوير على سلطة خارجية يُحيل إليها، بل ينطلق من الإنسان معتمدًا على عقلانيته بُغية تحريره من أي سلطة خارجيّة تدعي مصلحته.

في هذا السياق أصبح العقل هو المرجعيّة النقديّة لاختبار الحديث عن الوحي/ التَّجلي، حيث سيرفض التنوير التسليم بأي معطيات قبل إخضاعها للمساءلة العقلانيّة. وانتقل ذلك أيضا إلى الفضاء الديني، فقد أصبح التسليم باليقينيات يتوقف على اجتيازها الاختبار العقلي النقدي. في هذا السياق تشكّل تياران حدّدا منظومة التنوير المعرفيّة وشكلا تحديًّا أمام الطرح الديني بما في ذلك الحديث عن الوحي الإلهي.

أ. التيار العقلانويّ

التيار الأول هو العقلانويّة Rationalismus، ويُعد رينيه ديكارت René Descartesا(1596-1650) أهم مُؤسِّسيه. شكك ديكارت في موثوقيّة المعارف المبنيّة على التجربة وخبرة الحواس، إذ بإمكانها خداع الإنسان، لذا لا يمكن عدها مصدرًا لمعارف يقينيّة. وِفق هذا الاتجاه الديكارتي يمكن الشك في مصداقية كل معرفة. لكن هناك، حسب ديكارت، حقيقة واحدة لا يمكن الشك بوجودها إطلاقًا، وهي حقيقة الشك نفسها. فحتى وإن استطاع المرء الشك بكل شيء، فلن يستطيع الشك بأنَّه يشك. وإذا كان الشك هو نوع من أنواع التفكير، إذن سيكون المرء على يقين بأنَّه هو الذي يشك وبالتالي الذي يفكر، وبعبارة ديكارت الشهيرة: أنا أفكر/ أشك، إذن أنا موجود Cogito, ergo sum. ومن هنا استخلص ديكارت مبادئ المعرفة الإنسانيّة. هذه الأنا المفكرة، أي الذات المُفكرة أو العقل عند التيار العقلانوي، هي التي ستقوم باختبار الأقوال المُتعلّقة بالوحي الإلهي واختبار المقولات الدينيّة.

وفي حين كان ديكارت على يقين بإمكانية إيجاد مدخل معرفي للمسيحيّة ومبادئها من خلال المعرفة الفلسفيّة، فقد عارض هذا الطرح علماء اللاهوت الإنجليز الذين عُرفوا بأتباع الربوبية Deismus، وهو اتجاه لاهوتي يؤمن بأن الله هو الخالق للكون، دون أن يكون له دور مؤثر فيه بعد ذلك. فالله يخلق ولكنه لا يتفاعل مع خلقه بحال، لذا فهو إله خالق دون أنْ يتجلى للخلق؛ وبناء عليه يرفض هذا الاتجاه الحديث عن أديان الوحي Offenbarungsreligionen. أما الاتجاه الذي انتشر في ألمانيا في فترة التنوير داخل مدرسة العقلانويّة فلم يرفض الحديث عن الوحي/ التَّجلي الإلهي، بل كان همُّه إثبات معقوليّة المقولات الدينيّة وتنقيتها في بعض الحالات من شوائب اللاعقلانيّة.

لقد أراد مثلًا لايبنيز Leibnizا(1646-1716) الدفاع عن المقولات الرئيسيّة للمسيحيّة وذلك انطلاقا من العقلانويّة واعتمادًا على بعض آراء ديكارت، لكنه اكتفى بدحض الاعتراضات على المسيحيّة دون الانشغال بإثبات مقولات الإيمان أو محاولة استخلاصها من مبادئ العقل. فكان مُنكبًا على الدفاع عن الإيمان ضد الاعتراضات المقدمة ضده10

يعتبر الفيلسوف واللاهوتي الأمريكي نيكولاس بول وولتيرشتورف Nicholas Paul Wolterstorff (و. 1932) من أبرز ممثلي هذا الاتجاه الدفاعي. إذ يتبنى مقولة أن إيمان المؤمن مبررٌ طالما لم يتم إثبات خطأ هذا الإيمان، ويكفي في حالة الاعتراض على مواقف إيمانيّة أن يتمكن المؤمنون من دحض هذه الاعتراضات دون الحاجة لإثبات صحة مقولاتهم الإيمانيّة. لكن معظم أتباع المدرسة العقلانويّة يرفضون مُجرّد الاكتفاء بالموقف الدفاعي، ويطلبون من أصحاب المقولات الإيمانية إثباتها، حيث لا يجوز ادعاء اليقين إلا لِما أمكن للعقل إثباته.

ومن الجدير بالإشارة، أنَّ شاعر الأنوار غوتهولد إفرايم ليسينغ Gotthold Ephraim Lessingا(1729-1781) كان على قناعة مِنْ أنَّ إثبات تطابق مقولات الدين مع ضرورات العقل هو قاعدة موثوقة للإيمان. وبهذا فإنَّ ليسينغ لا يسعى لاختزال أديان الوحي على كونها دين العقل، أي المستخلص من مُجرّد العقل، بل يطرح مبادئ للعقل لا يمكن تجاوزها وعلى الأديان تلبيتها. داخل هذا السياق لم يُحاول ليسينغ إثبات أفضلية دين على آخر، بل ركز على أهمية توافق ما تطرحه الأديان مع مبادئ العقل والأخلاق. في كتاب تربية الجنس البشري Die Erziehung des Menschengeschlechtsا11 أوضح ليسينغ رؤيته للوحي، التي تتلخص في كون الوحي مُجرّد واسطة تربويّة للوصول إلى المعرفة، التي يُمكن الاستغناء عنها: «التربية لا تعطي الإنسان أي شيء لا يستطيع الحصول عليه من قبل ذاته. فهي تعطيه فقط ذلك الذي يمكنه الحصول عليه من قبل ذاته ولكن بطريقة أسرع وأقل مشقة. وهكذا الوحي، فهو لا يقدم للإنسان شيئًا لا يمكن للعقل من ذاته الوصول إليه، فكل ما يفعله هو تقديم أمور هامة للإنسان في وقت أقل»12.

وفق هذه الرؤية، مِن غير الوارد أن يتعارض العقل مع الوحي، إذ تظل معارف العقل هي المعيار المُستخدم للحكم على المقولات الدينيّة المُستقاة من الوحي. لا مجال وفق هذه الرؤية لتوسيع أفق المعرفة من خلال الوحي. حاجة الوحي مقصورة على أولئك الذين لم يتسلحوا بسلاح العقل والتفكير النقدي ليساعدهم في إيصال المعارف من طريق مباشر وقصير. إذن نجد هنا هرمية تُخضع معارف الوحي لحُكم العقل. يُضاف إلى ذلك رفض ليسينغ، ومعه المدرسة العقلانويّة، لمصداقيّة المعارف المؤسسة على خبرات تاريخيّة، فهذه الأخيرة تبقى خاضعة للصدفة: «الحقائق التاريخيّة الصدفية يستحيل بحال أن تكون دليلًا على حقائق عقلانيّة ضرورية»13.

ب. التيار الإمبيريقيّ

أما التيار الثانيّ، فهو المدرسة الإمبيريقيّة (التجريبيّة) التي تعتمد، خلافًا للمدرسة العقلانويّة، على الخبرات التاريخيّة للوصول إلى حقائق معرفيّة، إذ هذه الخبرات هي أساس المعرفة. لذلك رفض جون لوك John Locke (1632-1704)، أحد مؤسسي المنهج التجريبـيّ، رؤية ديكارت بأن الأفكار المتولدة في العقل هي معارف علميّة، فهذه الأخيرة تتأسس فقط على إدراكنا نحن للأمور، وفي خطوة لاحقة يتم من خلال الاستقراء وانطلاقًا من هذه الخبرات تعميم المعارف وفق مبادئ العقل. على هذا الأساس، يرفض جون لوك تشكيك ديكارت بالمعارف القائمة على مدارك الحواس، بل يرفض بدوره مصداقية معارف ما قبل الخبرة/ الإدراك a prioriا14.

آزرتْ المدرسة التجريبيّة مبدأ الطبيعانية Naturalismus، الذي يرى أن موضوعات البحث العلمي هي فقط تلك القابلة للقياس والرصد الكميّ. وداخل هذه الرؤية، فإنَّ مساءلة المسيحيّة مساءلة نقدية من وجهة نظر المدرسة التجريبيّة، ليست في كونها دينًا مُؤسّسًا على مقولات تاريخيّة ومن ثم على معطيات واقعية، بل يرجع ذلك إلى أنَّ المقولات التاريخيّة في المسيحيّة تُعبِّر عن وقائع أحاديّة، أي غير مُتكرِّرة. هُنا يُسجِّل ديفيد هيوم David Humeا(1711-1776)، وهو أحد مفكري هذه المدرسة، الملاحظة التالية المتعلّقة بقيام المسيح من قبره: «إذا حدثني أحدهم عن رؤيته لميت استيقظ من موته، فسأراجع نفسي وأتساءل إن كان احتمال كذب الراوي أكبر أم احتمال وقوع الحادثة»15. بالنسبة لهيوم، يُعد احتمال الكذب أو وجود سوء فهم، راجحًا على كل الأحوال، لأن قيامة ميت من موته مُعارضٌ لكل الخبرات الإمبيريقيّة المعاينة.

لقد وضع كل من التيار العقلانوي والإمبيريقي، المسيحيّة أمام تحدٍ كبير. فكلاهما يُشكل معضلة أمام الحديث عن الوحي الإلهي. مما جعل بعض علماء اللاهوت المسيحي يُحاولون الدفاع عن مقولة الوحي باعتبارها واقعة تاريخيّة يمكن للإنسان إدراكها إمبيريقيًّا، ولكن فقط من خلال التمكين الإلهي له. لقد كان هذا الدفاع -بشكل غير مقصود- تأييدًا للمذهب التجريبي، كونه يؤكد ضرورة أنَّ مقولات الدين قابلة للإدراك التجريبيّ، وإن كان هذا غير مُمكن إلا بمُساعدة الله. حاول لاهوتيون آخرون حلّ الإشكال من خلال التفريق بين معرفة وجود الله من جِهة، ومعرفة ذاته وصفاته من جهة أخرى. فذهبوا إلى أنَّ الأولى طبيعية يُمكن للعقل الوصول إليها -وهم بذلك يلتقون مع فلاسفة العقلانويّة-، أما المعرفة الثانية فهي تعتمد على الوحي، وليس للعقل دور في التعرف عليها. غير أنَّ هذه النظرة اللاهوتية تُعزِّز مقولة عدم عقلانيّة الوحي، وأنَّه خارج عن حيز التفكير العقلاني، إذ هو مُجرّد مسألة إيمانية خالصة.

ج. الحل الكانطي لإمكانيَّة المعرفة الدينيّة

رصد الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط Immanuel Kantا(1724-1804) نقاط ضعفٍ عند كلا المدرستين، العقلانويّة والإمبيريقيّة، وقام بدور هام في توسيع أفق إمكانيَّة المعرفة الدينيّة. احتج كانط على المدرسة العقلانويّة بأنَّ أتباعها جعلوا من مجموعة من مبادئ تفكيرهم مُطلقات دون مساءلتها مساءلة نقدية وإعادة النظر في صحتها، وبذلك جعلوا منها نوعًا من الدغمائيّة؛ كما أخذ على الإمبيريقيّين تشكيكهم في مصداقية الخبرات التاريخيّة مما قد يؤدِّي نهاية المطاف إلى منهج تشكيكي Skeptizismus. اقترح كانط مدخلًا آخر للمعرفة وذلك في سياق ما يعرف بالنقلة الكوبرنيكيّة، التي تعكس فرضية أن معارفنا تابعة للأشياء، كما عكس كوبرنيكوس فرضية أنَّ الكرة الأرضية هي مركز الكون. فوِفْق كانط لا تتبع معارفنا الأشياء، بل الأشياء هي التي تتبع معارفنا، أي تصورنا للأشياء هو الذي يحددها، أما الأشياء بحد ذاتها فغير موجودة بشكل موضوعي. بناء على هذا فإن نقطة انطلاق أي عمليّة معرفيّة تبحث عن الحقيقة هي الاختبار العلمي لإمكانياتنا المعرفيّة بما في ذلك المُساءلة النقدية للعقل Selbstprüfung der Vernunft. انطلاقًا من هذا المنظور فإن مصدر المعرفة ليس الأشياء كما هي، بل الشخص العارف.

يرى كانط أنَّ كل معرفة تبدأ بخبرة ما، لكنه لا يوافق الإمبيريقيين في أنَّ التقدم الزمني للمعرفة الإمبيريقيّة يترتب عليه أولية موضوعيّة، إذ توجد معارف هي عبارة عن أحكام مُركبّة تتميز بأن ضرورتها الفكرية وصلاحيتها الشاملة يُمكن إثباتهما بواسطة العقل، ولذلك فهي معارف سبقيّة، أي تسبق الخبرة/ التجربة a priori، لذا فإن جميع القواعد الرياضية والمنطقية وكذلك مصطلحات المكان والمادة، هي بمثابة معارف سبقيّة. مما يعني أنَّ جميع علوم العقل النظرية تتضمن أحكامًا مركبة سبقية كمبادئ عامة.

تتمثَّل المهمة الحاسمة للفلسفة النقديّة، كما يراها كانط، في إثبات إمكانية مثل هذه الأحكام المركبة السبقيّة، خصوصا وأنَّ السبقية التي يتحدث عنها كانط ليستْ مُتضمنة في الأشياء التي حولنا بل في الإنجاز التأسيسي للفاعل العارف؛ إذ المعرفة السبقية للأشياء تتوقف على ما نُضمِّنه نحن فيها، وهذا ما يعرف في فلسفة كانط بالفلسفة الترانسندنتاليّة، التي تتجاوز، مثلها مثل المدرسة العقلانويّة، مجال المدرسة التجريبيّة، لكن هذه المجاوزة لا تتجه نحو الأمام لعالم خال من التجربة/ الخبرة، بل تتجه إلى الخلف، من خلال تحليل شروط إمكانيّة المعرفة لدى الإنسان الفاعل. إنَّ البحث عن إثبات الشروط شاملة الصلاحية لإمكانية الخبرة كموضوع سابق لهذه الخبرة ومن دون خبرة، يُبقِي على إمكانية الميتافيزيقا، وبهذا يستبعد كانط المدخلين التجريبيّ والعقلانويّ، لأنّهما ينظران للميتافيزيقيا على أنّها نظريّة للخبرة وليس كعلم فوق أيّ خبرة. هنا ينتقل كانط إلى الشروط السبقية لإمكانية الخبرة عند الشخص الفاعل، وهي النقلة الحاسمة في فلسفة كانط الترنسندنتاليّة، التي ستفتح أُفقًا للتفكير في معقوليّة الحديث عن الوحي. لم يكن غرض كانط استخدام فلسفته لاختبار الحديث عن الله، حيث يرى أنَّ العقل النظريّ لا يُمكنه أن يقول أي شيء عن الله. وهنا أراد كانط برفضه لأي إمكانيّة لمعرفة عقليّة تتعلّق بالله من خلال العقل المحض فتح الأفق للإيمان خارج نطاق العقل النظري. إذ حسب كانط، فإن الله المُطلق لا يمكن أن يكون موضوع خبرتنا البشريّة، ذلك أنَّ معرفة الله على أنه هو الله المتعالي تُعدُّ مغالطة في ذاتها، إذ كيف للنسبي المتناهي أن يخبر المطلق غير المتناهي؟ من أجل هذا حورب كانط بداية من قبل الكثير من اللاهوتيين، إلى أن بدأ في سياق عصور التنوير إدراك أهمية فلسفة كانط الترنسندنتاليّة16 باعتبارها قادرةً على تقديم إجابات عقلانيّة عند الحديث عن الوحي17.

2. معقوليّة الحديث عن الوحي

تكمن وظيفة الثيولوجيا أو علوم الإلهيات، كما تُفهم في السياق الألماني المُعاصر، في الانشغال بالتفكر العقلاني في شتى المباحث الدينيّة18، ليس بمعنى محاولة إثبات حقيقتها -من قبيل وجود الله أو الوحي أو الرسالة أو غيرها من المُعتقدات الإيمانيّة-، بل محاولة إثبات عقلانيّة تبني مثل هذه المقولات الدينيّة19. فمنذ عصر التنوير يُناط بعلوم اللاهوت المختلفة وضع كل المقولات الدينيّة على منصة الاختبار العقلاني ومواجهتها بالحجج المعارضة، بهدف التحرر من كل نظرة دُغمائيّة في الطرح الدينيّ. ولا تأتي هذه المُطالبة بهدف زعزعة الإيمان الديني أو الشك لمُجرّد الشك، بل هي اختبار الفهم الإنسانيّ بالوسائل العقلانيّة. مما يُبرِز أهميّة البحث الفلسفي حال الحديث عن الغيبيات التي لا يمكن إثباتها بالتجربة. فعند الحديث عن تجلي الله في القرآن، لا يطلب البحث العلمي إثبات وجود الله وتجلِّيه للإنسان، بل يطلب إثبات معقوليّة جميع هذه المقولات، مما يسمح ببناء مُترتبات عليها يُمكن مُعالجتها بالمناهج العلميّة.

إنَّ السؤال المطروح هنا تحديدًا يتعلّق بمدى معقوليّة الحديث عن إمكانية تواصل الإنسان مع الله، أي مدى معقوليّة الحديث عن تواصل المتناهي مع اللامتناهي، النسبي مع المطلق. إذا لم نستطع إثبات معقوليّة هذه القضيّة، فلا يُمكن الحديث عن الوحي كتواصلٍ إلهيّ إنسانيّ20.

تُساعد الفلسفة الترنسندنتاليّة على تحقيق هذا المرام، إذ تبحث كما أصَّل لذلك كانط في الشروط القبليّة للمعرفة البشريّة، أي شروط تمكن الإنسان من المعرفة21. فالحديث عن تجلي الله للإنسان يعني الحديث عن دخول المُطلق/ اللامشروط في عالم النسبيّ/ المشروط22، مع تمكن النسبي من التعرف والتواصل مع المُطلق. تُعالج الفلسفة الترنسندنتاليّة شروط إمكانية مثل هذه المعرفة، وذلك من خلال طرحها للسؤال من نظرة أنثروبولوجيّة، تبحث عن شروط المعرفة في الإنسان ذاته، هل يمكن للإنسان أن يتعرف على المطلق في عالمه النسبي؟ ما هي الشروط التي يجب أن تتوفّر في العقل كي يتمكن من معرفة تجلي الله أو خبرة هذا التَّجلي؟ ما الذي يجب أن يكون موجودًا في الإنسان كي لا يبقى تجلي الله غير مُدركٍ وكي يتمكن من التواصل مع تجلي الله له؟

كان عالِم الإلهيات الكاثوليكي كارل رانر Karl Rahnerا(1904-1984) من أوائل من أدخل المنهج الترنسندنتاليّ في البحث الثيولوجيّ وذلك في إطار ما يعرف بالنقلة الأنثروبولوجيّة23، التي تسعى لدراسة الدين انطلاقًا من الإنسان وفق المقولة الشهيرة: «الدين جاء لخدمة الإنسان وليس الإنسان الذي جاء لخدمة الدين»24.

تحدث رانر عن ثلاثة شروط معرفيّة لا بد أن تتوفر في الإنسان كي يكون الحديث عن التواصل بين المطلق/ الله والنسبيّ/ الإنسان، حديثًا عقلانيًّا منطقيًّا25:

أولا: لا بد أن تكون لدى الإنسان القُدرة على مفارقة كل ما هو نهائيّ، أي القدرة على التعالي. يجد رانر أن هذا الشرط متوفر في الإنسان، من خلال قدرته على مساءلة كل شيء حوله، بما في ذلك مساءلة ذاته، أي أنه يستطيع دائمًا أن يفارق كل قضية ويتعالى عن كل قضية كي يُسائلها. وكما يقول رانر: «بهذا يبقى الإنسان دائمًا في حالة جريان نحو ذاته»26، لأنه ما يزال يسأل ويسائل نفسه، وكلما وصل لجواب وضع هذا الجواب في موقع المساءلة من جديد، وهكذا دواليك. يمثل رانر لهذا بالجريان بمثابة السعي نحو أفق، كلما اقترب منه إلا وبعد عنه27.

ثانيًا: إنَّ قُدرة الإنسان على السُؤال المستمر عن ذاته ليست مُجرّد مؤشر على وجود هذا الأفق اللامتناهي، بل إنَّ وجوده هو شرط إمكانيّة سؤال الإنسان المستمر وتعاليه الدائم عن كل جواب28، وذلك وفق الفلسفة الترنسندنتاليّة التي تبحث، كما سبقتْ الإشارة إلى ذلك، عن شروط إمكانية حصول المعرفة.

ثالثًا: يطرح رانر في النقطة الثالثة السؤال عن سبب إمكانية العقلِ مفارقة/ تجاوز المتناهي، هل ترجع إلى قدرة ذاتية تُمكنّه أيضا من التعرف على الله والتواصل معه، أم تشترط قدرة العقل هذه وجود الله مسبقًا كي نتمكن من فهمها أصلًا؟ سارع رانر باختيار الإجابة الثانيّة، مُعتبرًا أنَّ الله، ليس فقط ذلك الأفق اللامتناهي، بل هو سبب قدرة العقل على تجاوز ذاته؛ فالله كما يقول رانر هو الهدف الذي نصبوا إليه والمُبتدأ الذي ننطلق منه.

ما يخلص إليه رانر، من خلال اعتماد الفلسفة الترنسندنتاليّة في مقاربته اللاهوتيّة، هو أنَّ تمكين الله للعقل الإنسانيّ من مُفارقة ذاته هو الذي يُمكِّن العقل من مفارقة المتناهي والتواصل مع اللامتناهي/ الله، لكن دون تجلي الله ما كان العقل لتكون له القدرة على هذه المفارقة. لذلك يتحدث رانر عن المؤمن غير الواعي بإيمانه، لأن قدرة العقل التي منحه الله إياها على مفارقة ذاته هي هبة إلهية سابقة للوعي الإنسانيّ ويسعد بها كل إنسان؛ أما الإيمان الحقيقي فيتأسس وفق رانر عند وعي الإنسان بتجلي الله ويتجاوب على إثر ذلك إيجابيًّا مع هذا التَّجلي.

يُوافق اللاهوتي الكاثوليكي توماس بروبر Thomas Pröpperا(1941-2015)29 على المقاربة التي قدَّمها رانر في أنَّه لولا تجلي الله للإنسان لما أمكن الحديث عن تواصل حقيقي مع الله. لكن خلافا لما ذهب إليه رانر، لا يشترط بروبر أنَّ الله هو الذي مكَّن العقل من مفارقة المتناهي؛ أي لا يضع شروطًا ثيولوجيّة مُسبقة30، مُعتمدًا في تحليله على مفهوم الحرية في الفلسفة الحديثة، التي ترجع لكانط وفشته وشلنج وغيرهم. يمكن تلخيص فكرة بروبر، بشكل مُركز، في خمس نقاط مُركبة31:

أولًا: يُفرق بروبر بين مستويين للحرية الإنسانيّة32. يُعبِّر الأول عن الحرية المطلقة، التي ترتبط تحديدًا بالمستوى النظريّ، إذ يستطيع كل إنسان أنْ يُقرِّر مصيره بنفسه كما يشاء؛ في حين، يُعبِّر المُستوى الثاني عن الحرية المادية العمليّة، ذلك أنَّ قرارات الإنسان تُحددها مُختلف الظروف الاجتماعيّة والسياسيّة والعرفيّة والصحيّة والماديّة وغيرها.

لكن الحُرية النظريّة، كما يذهب لذلك بروبر، ليست مُجرّد مبدإ تنبع عنه حريتنا العمليّة، بل هي قاعدة ترنسندنتاليّة تصف شروط إمكان الحرية؛ أي أن وجود الحرية النظرية المطلقة هو شرط واجب لوجود الحرية العمليّة، فبدونها، كما يؤكد بروبر لا يمكننا أن نتصور إمكانيّة أي تواصل إنسانيّ، كالتخاطب، والصداقة، والحب، والأخلاق، والقانون، والهوية، والعقلانيّة.

ثانيًا: يطرح بروبر السؤال عن الكيفيّة التي يُمكن من خلالها انتقال الحرية النظرية الترنسندنتاليّة لتصبح حرية مادية معينة، وحتى يتحقق ذلك، فلا بد لها أن تشرق وتنفتح على محتوى معين.

ثالثًا: يتساءل بروبر عن المحتوى الذي سيحقق للحرية النظرية المطلقة صيرورتها لحرية عمليّة على أكمل وجه. لن يتم ذلك إلا إذا كان المحتوى الذي ستنفتح عليه الحرية هو حرية مُطلقة مُماثلة، وذلك في الآخر المفارق. فتصبح هذه الحرية المطلقة في المفارق هي محتوى الحرية النظرية المطلقة. لا تتحقق الحرية، إذن، إلا بتمكينها لحرية مفارقة، أي انفتاحها على حرية أخرى.

رابعًا: يعرض بروبر إشكالية المُطلق والنسبي، ذلك أنَّ الحرية على المستوى النظري مُطلقة، ولكنها على المستوى المادي العملي نسبيّة. ولأن الحرية مُطلقة نظريًّا، فإنَّها تُريد الاعتراف المطلق بكل ما هو مفارق لها والانفتاح عليه، لكنها عمليًّا تعجز عن ذلك بسبب القيود العمليّة الكثيرة. تسعى الحرية إذن لما لا يمكنها تحقيقه. فالحرية النظرية المطلقة لا بد لها، كي تحقق نفسها، أن يكون محتواها، الذي ستنفتح عليها لتمكنها من الوجود، هو ذَات الحرية المطلقة، لكن هذه الأخيرة كيف لها أن تكون مطلقة وفي ذات الوقت هي المحتوى المادي المتناهي للحرية؟

خامسًا: لإيجاد جواب على هذه الإشكاليّة، يذهب بروبر إلى ضرورة وجود حرية مطلقة مفارقة، هي مطلقة نظريًّا وعمليًّا في ذات الوقت، وهذا هو شرط إمكان الحديث عن حرية للإنسان، وإلا فلا حرية أصلًا. وهنا يصل بروبر إلى فكرة الإله، حيث يمكن تسمية هذه الحرية المطلقة باسم الله الذي فيه تجتمع تلك الحريتين، فالله هو الحرية المطلقة بمعناها النظري والعملي. إذن لا يمكن الحديث عن حرية إنسانيّة عمليّة دون أن يكون هناك وجود لحرية مطلقة كاملة. والحرية الكاملة هي تلك التي تكون من ناحية نظرية وأخرى عمليّة مطلقة. فالإله هو تلك الحرية المطلقة، ولذلك فإن هذا الإله لن يدخل إلى التاريخ أو يتدخل فيه إلا بطريقة تحافظ على حرية الإنسان.

لا تروم مقاربة كل من رانر وبروبر إثبات وجود الله، إذ الإشكالية التي اعترضتهما تتعلّق في المقام الأول بإمكانية تواصل الإنسان مع الله، حال تجلي الإلهي، أي تواصل النسبي مع المطلق. يجد بروبر هذه الإمكانية مُبررة، بكون الله هو الحرية المطلقة التي لولاها لما كان للعقل أن يُبرِّر، في إطار الفلسفة الترنسندنتاليّة، حُرية الإنسان. وهكذا يمكن فهم حرية الإنسان على أنها منحة إلهيّة، ومن ثم فإن هذا الإله سيحافظ دائمًا على حرية الإنسان، حتى في تجليه.

بناء على هذا التأسيس النظري، يُمكن القول بأنَّ الفلسفة الترنسندنتاليّة تسمح لنا بفهم التَّجلي الإلهي، ليس فقط من خلال لغة الإنسان الثقافيّة، بل أيضا على المستوى النفسيّ ومن خلاله كإنسان بكل ما يحمل من هموم ومخاوف وآمال وتطلعات، إلى غير ذلك. إنَّ الحديث عن الله بأنَّه حرية الإرادة المُطلقة، يوافق الرؤية الأشعرية التي ترى في الإرادة الإلهية الصِفة المركزية التي تتأسس عليها باقي الصفات33، فالله هو المريد لذاته أن تكون هي كما هي، وذلك من خلال إرادته المطلقة ﴿فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ (البروج 85: 16). تدعو فلسفة الحرية الحديثة لإعادة التفكير في الإرادة الإلهية من منظور أنثروبولوجي، لا يُصادر حرية الإنسان، بل على العكس تمامًا، يؤيدها بربطها بالإرادة الإلهيّة. وهذا ما سأتعرض إليه في المبحث القادم.

ثانيًّا. في الحاجة إلى إعادة تعريف الوحي

1. الوحي في سياقه التاريخي

إنَّ اعتماد منهج استقرائي يتتبع العرض القرآني للوحي بوصفه تواصل الله مع الإنسان، يُعِين على إعادة فهم الوحي، في الوقت نفسه الذي يُسائل العديد من المُسلمات والبداهات التي تناقلتها كتب التفسير في التقليد الإسلامي.

ينقل القرآن مجموعة من الحوارات34، وما يهم في هذا السياق هو حوار الله مع المُفارق له35، وتحديدًا مع الإنسان، الذي كثيرًا ما يرد جوابًا على سؤال ما، أو موقف مُعيّن حدث في سياق الوحي36. على أنَّ الجدير بالمُلاحظة، أنَّ القرآن لا يذكر تفاصيلًا عن السياق التاريخيّ لتفاعل الله مع الإنسان من خلال هذه الحوارات والانفعالات37. إذ على سبيل المثال، في النص الآتي: ﴿قَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾ (التوبة 9: 30)، لا يقصد القرآن عموم اليهود، وإنَّما فرقة مُعينة من يهود المدينة، إذ يظهر أنَّ القرآن يصف عقيدة هذه الفرقة باعتبارها مُخالفة للعقائد اليهودية المعروفة، ومع ذلك نجد أنَّ القرآن لا يذكر شيئًا عنها أو عن السياق الداخلي الذي جاء فيه النص، مما يُشير إلى أنَّ القرآن في تواصله مع مُتلقِّيه الأوائل ينطلق من وجود معرفة مُسبقة، لذلك لم يكن بحاجة لإيضاح أكثر.

يُحيل هذا الأمر على فكرتين أساسيّتين. الأولى على طبيعة القرآن التواصلية، باعتباره تواصلًا شفهيًّا في سياقات تاريخيّة مختلفة، امتدتْ من سنة 610م/ 13ق. هـ إلى 632م/ 11هـ، قبل أن يتحول إلى مُصحف مكتوب بين دفتين بعد وفاة النبي محمد ﷺ. وداخل هذا الإطار، فإنَّ قراءة القرآن وفق ترتيب النزول -القراءة الكرونولوجيّة-، خلافًا لترتيب المُصحف، يسمح بفهم أعمق للسياقات الثقافيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، بل والدينيّة، التي يتواصل معها القرآن، باعتبارها ليستْ فقط سياقات مُتعددة، بل تخضع لتطورات وظروف مختلفة، مما يجعل التقسيم الذي وضعه ثيودور نولدكِه Theodor Nöldeke (1836-1930)ا38 لفترات تبليغ القرآن وفق ترتيب النزول/ التسلسل الزمني39، جُهدًا مهمًا لا يمكن الاستغناء عنه في البحث القرآني. ووفق النظرة الإسلاميّة، فإن القرآن لم ينزل دفعة واحدة بل منجمًا خلال عقدين من الزمن، وذلك في سياقات زمنية ومكانية وسياسية واقتصادية واجتماعية مختلفة، رافق خلالها الناس عن قرب، وتواصل مع مواقفهم ومُتطلباتهم وأسئلتهم.

أمَّا الفكرة الثانية، فهي أهمية الفضاء المعرفي وما قبليات المُتلقين الأوائل في فهم وظيفة القرآن. وهذا ما انتبهتْ له الباحثة الألمانية أنجيليكا نويفيرت Angelika Neuwirth، حين أكَّدتْ على أنَّ القرآن قد تفاعل مع ذات الفضاء المعرفي للمسيحيّة واليهوديّة، المعروف باسم «العصور القديمة المتأخرة» Spätantike Zeitا40. تنتقد نويفيرت احتكار هذا الفضاء من طرف الباحثين الغربيين بوصفه مُجرّد حقبة تكوينيّة لأوروبا، إذ تقول في ذلك: «إنَّ موضعة القرآن في سياق العصور القديمة المتأخرة يحتاج بالتأكيد إلى أن نكون متحفظين، ليس لمُجرّد مواصلة نقاشات القرن التاسع عشر التي (…) تنزع للنظر إلى القرآن باعتباره مُجرّد مستفيد سلبيّ من ثقافة العصور القديمة المتأخرة، بل للحاجة إلى التركيز على القرآن بصفته مؤثرًا حيويًّا وخلاّقًا في مناقشات العصور القديمة المتأخرة»41.

تقرأ نيوفرت القرآن على أنه إحدى وثائق زمانه42، لا ليتزامن مع الإسلام المتأخر، بل ليتزامن مع العصور القديمة المتأخرة. وهذا يُفسِّر تناص القرآن مع عديد من سرديات العصور القديمة المتأخرة، مُوظِّفًا إياها في نقل رسالته، مما يُؤكِّد على أنّ الوحي القرآني لم يتم بمعزل عن محيطه الثقافيّ، وأنّه لم يتجاهل هذا المحيط، بما في ذلك الأديان التي وُجدَت فيه، بل تفاعل معه تفاعلًا إيجابيًّا، مكّنه من مد جسور معرفيّة بينه وبين متلقيه الأوائل، سواء كانوا يهودًا أو مسيحيين أو أحنافا أو وثنيين أوغيرهم. كما تجدر الإشارة أيضا، إلا أنَّ القرآن لم يستخدم اللغة العربية بصفتها لسانا فقط، بل بصفتها لغة اجتماعية وثقافية واقتصادية ونفسية للمتلقين الأوائل43، يتجلى الله من خلالها.

لم يتعامل المتلقون الأوائل مع القرآن كما نفعل اليوم، كما لو أنه كتاب مستقل عن الحياة ينقل مجموعة من التعاليم الإلهية أو كتاب يُقرأ لتُفك رموزه44؛ بل كان وعيهم به على أنه وجود مستمر لله في حياتهم، إذ ليس القرآن هو الذي رافقهم، بل الله نفسه45، وذلك بصفته إلها مُهتمًا بشؤونهم وحزينًا لحزنهم وفرحًا لفرحه، الذي تجلَّى لهم برحمته المُحبّة لهم ولجميع خلقه داعية الجميع للتواصل معه. تجلت رحمة الله للمتلقين الأوائل في صوت القرآن المتلو46، على وجه خاص، الذي من خلاله تجلت الوجدانيات الإلهية47.

لذلك شكل القرآن للمتلقين الأوائل يد الله الممدودة والداعية للتواصل الحميم معه: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ (المائدة 5: 54). يدعو الله الإنسان لقبول محبته وتوجيه حياته نحوه، ولا يتحقق ذلك إلا بطريقة عملية بوصفها صيرورة في حياة الإنسان الذي قبل محبة الله وتفاعل معها بأن أصبح يدا لهذه المحبة، ويؤكد الله للإنسان في تجليه له تواجده معه وله دائمًا، وهذا ما يقصده القرآن بوصفه لنفسه أنه هدى. يطلب القرآن من محمد ﷺ ليس مُجرّد قراءة القرآن، بل تلاوته: ﴿وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ...﴾، ﴿ٱتْلُ مَآ أُوحِىَ إِلَيْكَ...﴾ (تكررت في عدة آيات)، ﴿ورتّل القرآن ترتيلا﴾ (المزمل 73: 4)، فجمال القرآن في صوته ونغمته يحمل أكثر بكثير من مُجرّد معاني الكلمات التي يمكن أن نحللها لغويًّا وفيلولوجيًّا. لذلك تجلى الله في صوت ونغم القرآن كي تبقى معانيه مفتوحة، ولا تنتهي آفاقه التي تتحرك في إطار الرّحمة، بوصفها مركز ووسط القرآن وغايته.

 من خلال ما تقدَّم، يُمكن أن نصل إلى استنتاجين أساسيين. الأول، أنَّ عمليّة الوحي ليست خارجة عن التاريخ الإنسانيّ، بل هي عمليّة تواصل48 المتعالي مع الإنسان الحاضر في سياق تاريخي معين؛ الثاني، أنَّ هذا التواصل لم يتم فقط في التاريخ، بل أيضا من خلال التاريخ، أي من خلال الإنسان نفسه، بأسئلته وآماله ومخاوفه وتطلعاته والتحديات التي تواجهه ومواقفه إزاءها، سواء تعلّق الأمر بالإنسان الفرد أو الجماعة، ومن ثمَّ فإنَّ للتاريخ دور إيجابي في تشكُّل الوحي القرآني، حيث كان الإنسان فاعلًا أساسيًّا، وليس مُتلقيًّا سلبيًّا.

لقد جرت العادة في التقليد الإسلاميّ على تعريف القرآن الكريم على أنه كلام الله المنزل على نبيه محمد ﷺ، المعجز بلفظه، المتعبد بتلاوته، المكتوب في المصاحف، والمنقول إلينا بالتواتر. يستند هذا التعريف على رؤية للقرآن تعتبره خطابا أحادي الاتجاه، حيث لا يقوم السياق التاريخي ولا المتلقون الأوائل، بمن فيهم النبي محمد ﷺ، بأي دور إيجابي، إنها فقط عمليّة تلقٍ سلبيٍّ للوحي. وهنا لا بد أن تكون نقطة الانطلاق هي إعادة النظر في حديثنا عن الله وعن صورة هذا الإله، فهل هو ذلك المحرك غير المتحرك، أم أنه المُتحرك المحرك، الذي هو ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ (الرحمن 55: 29) و﴿هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ (الحديد 57: 4)؟ أي أن الذي يؤثر في التاريخ ويتجلى للإنسان، إنَّما يقوم بذلك من داخل التاريخ ومن خلال الإنسان نفسه.

إنَّ صورة الإله التي أنطلق منها، لها دور رئيس في فهمنا للوحي، فهل هو مُجرّد خطاب أحادي ورسالة إلى الإنسان يتلقاها بشكل سلبي ولا يتفاعل معها إلا من خلال فك رموزها اللغوية؟ أم أنَّ الوحي تواصل مراوح بين الله والإنسان، يتشكل على إثره الوحي باعتباره تفاعلًا إيجابيًّا بين المُطلق والنسبي؟

2. الوحي بوصفه تجليًّا خطابيًّا

ما أقترحه في هذه الدراسة، أن الوحي هو بمثابة «تجلٍ خطابيّ»؛ أي أنّه تجلي لله من خلال الخطاب. إنَّ الحديث عن الوحي بوصفه تجلي الله للإنسان في القرآن، لا يُمكن أن يكون حديثًا معقولًا إلا إذا انطلقنا من صورة إله كامل في ذاته49 لا يقصد من تجليه للإنسان سوى إرادة مُشاركة الإنسان محبته، كما جاء في القرآن: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ﴾ (الرحمن 55: 1-3) وقوله: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ (المائدة 5: 54)50. لقد تكلم الله عن علاقته بالإنسان بوصفها محبة، ولا يُمكن لها أن تتم إلا إذا كانت قائمة على الحرية، التي هي قانون المحبة، وهذا يصل بنا إلى عمق التفكير الفلسفي الألماني الحديث عن الحرية.

يُمكن رصد انتقال النقاش الفلسفي عن مفهوم الحرية إلى السياق العربي من خلال أعمال الفيلسوف المصري زكريا إبراهيم، لاسيما في كتابه مُشكلة الحرية51، حيث يبدو مُطلعًا على أعمال الفيلسوف الألماني فريدريك شيلينج Friedrich Schellingا(1775-1854)52 من خلال تلميذه اللاهوتي السويسري شارلز سكريتان Charles Secrétanا(1815-1895) الذي له أعمال عدة عن الحرية باللغة الفرنسية53.

في كتابه عن مشكلة الحرية، ينتقد إبراهيم الفيلسوف إسبينوزا، الذي خلص إلى أنَّ الحرية الإنسانيّة عبارة عن وهم من الأوهام. فجعل الإنسانيّة مُجرّد ظواهر آلية تسير وفق قوانين ثابتة كالقوانين الرياضية54، يعترض إبراهيم على هذه الفكرة قائلا:

«ألا تشهد التجربة بأنَّنا نتغيّر، وأنه ليست ثمة ضرورة مطلقة باطنة فينا؟ وفضلًا عن ذلك، فما الذي يمنعنا من أن نفترض أن الله قد أراد فعلًا أن تكون هناك مخلوقات حرة فاعلة، أعني إرادات أخرى غير إرادته الخاصة؟ بل لماذا لا نقول أنه لما كان من المستحيل أن تكون الأشياء مخالفة لما يريده الله، فإنه لابد أن تكون لدى الله قدرة على خلق موجودات حرة؟ حقًا إن مثل هذه القدرة المستقلة التي يهبها الله بمحض إرادته لإرادات أخرى، قد تبدو للبعض بمثابة نقصان في القدرة الإلهيّة، ولكن أليس في وسعنا أن نقول إنَّ قدرة الله المطلقة تتمثل في صورة أسمى، وتظهر بشكل أوضح، حينما تخلق موجودات قادرة حقًا، بدلًا من أن تخلق موجودات عاجزة لا تملك قدرة ذاتية ولا تقوى على توجيه نفسها؟ والحق أنه ماذا عسى أن تكون تلك المقدرة الإلهيّة، إذا كان كل ما تستطيع أن تفعله إنما هو أن تخلق أشباح موجودات؟ أليس مثل هذا الخلق بعيدًا كل البعد عما نتصوره عن قدرة الله المطلقة؟ وإذن فلماذا لا نقول أنه كلما أعطى الله مخلوقاته قدرة مستقلة ونشاطًا حقيقيًّا، كانت قدرته أكمل وأظهر، لإن عظم المنحة يكشف عن عظمة المانح، وحريتنا هي في الحقيقة أصدق تعبير عن قدرة الله المطلقة؟»55.

يكشف النص، ومُجمل أطروحة إبراهيم حول الحرية، على توافق بينه وبين شيلينج، وهو أيضا ما يذهب إليه العديد من الفلاسفة الألمان المعاصرين56، في أنَّ الحرية تتحقق كلما منحتْ الحرية؛ أي أنَّ حريتي تتحقق كلما سمحت للآخر بأن يمارس حريته.

تُحيل هذه الفكرة إلى ما ذهب إليه الكثير من المُتصوفة في العالم الإسلاميّ -ولها حضور أيضا في النصوص المسيحيّة واليهودية-؛ في أنَّ الله خلق الإنسان على صورته، وأظهر تجليات ذلك أنَّ الإنسان مخلوق من روح الله، لتكون بذلك عمليّة الخلق أعلى مستوى للعطاء الإلهي، حيث لم يشمل العطاء مُجرّد الجسد المادي فقط كما تشترك فيه سائر الحيوانات والنباتات، ولكن أكرمه الله وميَّزه عن سائر المخلوقات بالروح، وهذه قمة الكرم والجود الإلهي من جهة، وقمة الحب الإلهي؛ لأن العطاء من الروح لا يكون إلا عن حبّ. إنَّ التأسيس لمفهوم الحرية من هذا المنظور يفتح بابًا جديدًا لحل المشكلة التي واجهت علماء الكلام الأشاعرة والمعتزلة، حين طرحوا السؤال الآتي: هل الله خالق أفعال الإنسان، أم أن الإنسان من يخلق أفعاله؟ لقد انتصر الأشاعرة لإرادة الله وحريته، على حساب حرية الإنسان؛ في حين، انتصر المعتزلة لإرادة الإنسان وحريته على حساب إرادة الله.

تجاوزًا لهذه المُفارقة عند علماء الكلام، فإنَّ الفكر الفلسفي الحديث، بالتوازي مع الفكر الصوفي الإسلاميّ، يسمحان بالتوفيق بين إرادة الله وحرية الإنسان. فمن جهة البحث الفلسفي فإنَّ منح الحرية ليس تحديدًا/ تقييدًا لها بل على العكس من ذلك، هو تأكيد على الحرية الذاتية وإثمار لها؛ ومن جهة النظر الصوفي فإنَّ منح الله الحُرية للإنسان لا ينقص من كمال الله، بل هو تعبير عن تجلي إرادة الله، وذلك كله من تجليات رحمته.

يُساعد هذا التأسيس النظري، على الفلسفة والتصوف، إلى الوصول إلى النتيجة الآتية: إنَّ علاقة الله بالإنسان علاقة محبة، لأنَّها من جهة، تعبير عن حرية الإرادة الإلهية والإنسانيّة في الوقت نفسه، ومن جهة ثانيّة، هي محبة لأنَّها تعبير عن الانفتاح على الآخر انفتاحًا غير مشروط.

إنَّ الوحي، من خلال هذا التأسيس النظري، لا يسلب الإنسان حريته، كما لا يجعل منه متلقيًّا سلبيًّا، بل له دوره التأسيسي في عمليّة الوحي التي هي تجلٍ إلهي من خلال الخطاب الإنسانيّ، أي من خلال التاريخ.

كما يتمثَّل الغرض من التَّجلي الإلهي، بوصفه علاقة الله بالإنسان، في الإفصاح عن محبة الله للإنسان، أي أن الله كان ومازال مريدًا للإنسان إرادة غير مشروطة، تجعل من الإنسان هدفًا لا وسيلة أو وظيفة لهدف آخر، وهذا ما يُعبِّر عنه القرآن عندما يورد صِفة الرّحمة والخلق في آية واحدة: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الإنْسَانَ﴾ (الرحمن 55: 1-3). لا أتحدث هنا عن صِفة الرّحمة كصِفة لله بجانب صفات أخرى، بل كتعبير عن ذات الله، وأنَّ الله هو الرّحمة التي منها تنبع صفاته الأخرى كالعدل، لذلك يتحدث القرآن عن رحمة الله على أنها مطلقة57: ﴿رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ (الأعراف 7: 156). كما طابق القرآن اسم الله مع اسم الرحمن: ﴿قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَٰنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ ٱلْأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَى﴾ (الإسراء 17: 110). كما توجد إشارة مُهمة في القرآن تُماهي بين الله والرّحمة، وذلك في قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنِينَ﴾ (الأعراف 7: 56) ولم يقل قريبة، مع أنَّ الرّحمة مؤنثة، وفي اللغة العربية يُمكن إعطاء المضاف حكم المضاف إليه في التذكير والتأنيث إذا صح الاستغناء عنه دون أن يتغير المعنى، فيقوم المضاف إليه مقامه58، ففي قوله ﴿رَحْمَت اللّه﴾، الرّحمة هنا هي المضاف واسم الجلالة المضاف إليه، فيجوز انصراف تذكير اسم الجلالة على كلمة الرّحمة، لأنه يصح حذف كلمة الرّحمة، فيبقى المعنى غير متغير: «إنَّ اللّه قَرِيبٌ». إذن يجوز لغويًّا في هذا الموضع تذكير كلمة الرّحمة، لكن السؤال المفتاحي هو لماذا وقع الخيار على التذكير؟ يُمكن تقديم الإجابة من خلال نقطتين، الأولى: أنَّ عبارة «إنَّ رحمة الله قريبةٌ»، تجعل من القرب مُجرّد صِفة للرحمة، أمَّا التذكير فيجعل كلاهما قريب، الرّحمة والله؛ الثانية: في تذكير الرّحمة إشارة إلى أنَّ الله هو الرّحمة، وقد اختصها القرآن بهذه الخاصية تأكيدًا على ذاته الرحمانيّة.

كما أنَّ البحث الفيلولوجي يُساعد على ربط الرّحمة بالمحبة، ذلك أنَّ كلمة «رحمن» في القرآن، ذات أصل سرياني آرامي وتعني الإله المُحب، بمعنى الرّحمة المُحبة للإنسان؛ وضمن هذا المعنى يندرج مفهوم الرّحمة في الإطار النظري الذي أقدمه، إذ هي اصطفاء الله للإنسان مُنذ الأزل، ودليل على أنَّ الله يريده ويبحث عن التواصل معه تواصلًا قائمًا على المحبة: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ (المائدة 5: 54). وكما ذكرت آنفا، فقانون المحبة هو الحرية، إذ لا محبة صادقة مع الجبر.

إنَّ هذا الحضور المركزي للرحمة كمحدد لعلاقة الله بالإنسان يبلغ مداه في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء 21: 107)، حيث جعل القرآن الرّحمة الإلهية القيمة الأساسية للقرآن ومقصده الأسمى، والمحور الذي حوله تدور رسالة النبي محمد ﷺ في مختلف سياقاتها، لذلك بالإمكان القول إنَّ الوحي القرآني ليس سوى تجل للرحمة الإلهية المُحبة.

إنَّ الحديث عن الرّحمة المحبة كمحدد لعلاقة الله بالإنسان، يُحيل مباشرة إلى التواصل بين الحرية الإلهية والحرية الإنسانيّة، لأن الحرية هي شرط المحبة. إذ المحبة هي إرادة الآخر إرادة غير مشروطة، لا تجعل من الآخر وسيلة، بل هدفا في ذاته؛ فهي لا تستخدمه، بل تتقبله، إذ لا محبة مع الجبر/ غياب الحريّة.

لفريدريك شيلينج مقولة مشهورة في كتابه فلسفة الوحي59، يذكر فيها أنَّ حريتنا وحرية الله هي الأصل الأسمى، ولذلك فهي السبب النهائي لكل شيء. وبهذا عبر عن فكرته المتمثلة في أن الحرية جوهر الله وجوهر الإنسان في ذات الوقت، وهذا يتوافق مع المنظور الأشعري الذي يرى أن صِفة الإرادة الإلهية محور صفات الذات الإلهيّة. من المؤكد أن موضوع الحرية يمثل أكثر الموضوعات جدلًا في النقاش الفلسفي اليوم، فمسألة كون الحرية هي السبب النهائي لكل شيء ليست من المسلمات إطلاقًا، بل يجري النقاش الحاد حول هذه القضيّة، خاصة في الفلسفة التحليليّة.

يسمح لنا الفكر الفلسفي الحديث اليوم عن الحرية بالتوفيق بين إرادة الله وحرية الإنسان. حيث أن تمكين الآخر أن يكون حرًا، هو ليس تحديدًا للحرية بل بالعكس من ذلك، منح الحرية هو تأكيد وإثمار للحرية الذاتيّة. ومن ثم فإن منح الإنسان الحرية لا يقلص من حرية الله، إذ بهذا العطاء تتجلى إرادة الله ورحمته وفق فهم الرحمة على أنها إرادة الآخر إرادة غير مشروطة.

 يترتب على هذا، إعادة النظر في مفهوم الوحي. فالله فاعل في التاريخ من خلال الإنسان، لا مُصادرًا لحرية الإنسان بل محافظا عليها. كما أنَّ التَّجلي الإلهي يُمكن أن يتم أيضا من خلال الإنسان، كما هو الحال مع عيسى عليه السلام الذي هو روح من الله ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ﴾ (النساء 4: 171)، أو أن يوحي بكلامه مستخدمًا لغة الإنسان في تطورها التاريخي والاجتماعي، كما هو الحال مع القرآن، الذي وُصف بالروح ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا﴾ (الشورى 42: 52) وبالرّحمة ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (يونس 10: 57)، فيكون القرآن هو تجلي الله بلغة الإنسان وتاريخه وثقافته وظروفه وأسئلته ونفسيته، يهدف بالأساس إلى دعوة الإنسان للتحرر، ليس فقط من كل ما يحول بينه وبين كونه هدفًا لذاته، بل هو تجل يدعوه لتحقيق مبدأ الحرية في عمله على تحرير الإنسانيّة كي يصبح أخاه الإنسان أيضا هدفًا في ذاته لا وسيلة لهدف ما.

لذلك لا يمكن فهم القرآن دون وضعه في سياق متلقيه الأوائل. ولا يعني ذلك البتة أنَّ القرآن موجه فقط للجماعة الأولى، بل هنا تساعدنا النظرية الأشعرية التي تفرق بين الكلام النفسي المُطلق لله؛ وبين كلام الله المخلوق، الذي يُعبر عن الكلام النفسي لله من خلال لغة الإنسان وثقافته، أي في التاريخ ومن خلال التاريخ، وتحديدًا في مكة والمدينة زمن الوحي. يسمح هذا التمييز بفهم الوحي على أنه كلام الله من خلال كلام الإنسان، ويُساعد بذلك على تركيز النظر على الدور التأسيسي للسياق التاريخي على الوحي، دون جعله كلامًا إلهيًّا خارجًا عن الزمان والمكان أو كلامًا بشريًّا ليس للإلهي أي دورٍ فيه.

ثالثا. المُقاربة الثيولوجيّة التاريخيّة

مدخلًا هيرمينوطيقيًّا لفهم القرآن

إنَّ الانطلاق من كون القرآن تجليًّا إلهيًّا، يعني أن القرآن يُمثل دخول الله في التاريخ من خلال لغة الإنسان، ليس فقط المنطوقة بل أيضا لغته الحضارية والاجتماعية والنفسيّة، مما يجعل دراسة وتحليل السياق التاريخي لنزول القرآن أمرًا لا يمكن الاستغناء عنه من أجل فهم القرآن. 

هذا يعني أننا نستطيع وصل مقدمة ثيولوجية، في كون القرآن هو تجلي الله، مع مدخل تاريخي علمي ينظر للقرآن بوصف كتابًا داخل التاريخ. إنَّ الحاجة إلى هذه المُزاوجة بين المقاربة الثيولوجية والتاريخية، مردها إلى قصور كل مقاربة إذا استُخدمتْ على حدة. فالتعامل مع القرآن من منظور ثيولوجي بحت، سيجعل القرآن فوق التاريخ، مُغفلًا بذلك دور التاريخ الفعّال في تشكل كلام الله ككلام بلغة إنسانيّة؛ كما أنَّ التعامل مع القرآن فقط من منظور تاريخي فيلولوجي، سوف يختزله في مُجرّد نصوص شكّلها التاريخ، وهذه الرؤية تتجاهل دور القرآن الروحي في تشكل جماعة المؤمنين باعتباره مؤسسا لحركة دينيّة وأيضا مساحة تواصل الإنسان مع الحضرة الإلهيّة.

إن الإصرار على اختزال البحث القرآني في المدخل التاريخي النقدي/ الفيلولوجي، أو في السؤال عن فهم الجيل الأول للقرآن، قد يبدو اليوم مدخلًا جذابا لمقاربة موضوعيّة، خاصة لقراءة القرآن بشكل يصالحه مع الحداثة. لكنني أجد أن هذا المدخل، مع أهميته، غير كاف للتعامل مع القرآن بوصفه تجل إلهي. يشير الباحث الألماني توماس باور، في كتابه عن التعددية المعرفيّة في الإسلام للآتي: «اختزال القرآن في المدخل التاريخي النقدي سيغلق كل الأبواب أمام قبول التفسير الصوفي للقرآن مثلًا، لأن مثل هذا المدخل التفسيري للقرآن لم يكن موجودًا في عصر الوحي»60. يصبو باور لإبقاء الباب مفتوحًا أمام القراءة التعددية للتفسير القرآني، لذلك ينتقد بعض المداخل الحديثة لقراءة القرآن التي لا يهمها الحفاظ على تعددية أفهام القرآن، ونتيجة سعي بعض هذه المناهج للوصول إلى فهم واحد للقرآن، فإنها تغلق بذلك حركية القرآن وقبوله تعددية القراءة والفهم؛ لذلك فإنَّ أي قراءة من هذا النوع هي فكرة سياسية ستنحو بشكل واضح نحو الطابع الأيديولوجي، وهذا مناقض للمناهج التقليدية لقراءة القرآن التي تحدثت دائمًا عن تعددية الأفهام. لذلك أجدني أوافق باور في قوله: «إذا أردنا الاعتراف بأن القرآن يمتلك معاني ربانية وإنسانيّة سامية وصالحة لكل زمان ومكان، كما أكد على ذلك المفسرون التقليديون دائمًا حتى وإن لم يلتزموا بذلك دائمًا عند التطبيق، فلن يبقى أمامنا طريق لذلك سوى بالتخلص من النظرة التاريخيّة البحتة للقرآن التي تريد أن تختزله في سياق تاريخي معين»61.

غير أنَّ هذا الموقف الحذر من القراءة التاريخيّة للقرآن، لا يعني الدعوة إلى التخلي عن المناهج التاريخيّة النقدية/ الفيلولوجية؛ إذ ما ينبغي التأكيد عليه، هو ضرورة تجنب الاستخدام السلبي لهذه المناهج العلمية الذي قد ينحو اتجاه منع تعددية الفهم، ومن ثم إغلاق القرآن، والاكتفاء بالبحث عن الفهم الوحيد الصحيح.

جدير بالإشارة إلى أن المقاربة التاريخيّة هي أداة بحثيّة، شأنها في ذلك شأن أي مقاربة أو أداة أخرى تُساعد في فهم أفضل لموضوع البحث. وإذا أُخِذ هذا الأمر بالحسبان، فيُمكن القول أن المدخل التاريخي النقدي لدراسة القرآن في سياقه التاريخي يُساعد بشكل حاسم في فهم نزعة التواصل الحوارية بين الوحي الإلهي والسياق التاريخي المعيش زمن الوحي، وذلك لإظهار التفاعل المشترك بين السماء والأرض، وهكذا تظهر قصة الوحي كقصة الله مع الإنسان والإنسان مع الله.

إن هدف هيرمينوطيقا القرآن في وِفق ما أقدِّمه في هذه الدراسة هو الكشف عن معطيات هذا التواصل في التاريخ وفي الحاضر، ولكن دون تضييع أو تهميش لدور الإنسان التأسيسي لهذا التواصل، ودون فصل تواصل الإنسان مع الله عن تواصله مع ذاته ومحيطه ومع أخيه الإنسان، إذ لا يُمكن الاستغناء عن كليهما لفهم التَّجلي الإلهي.

إذا كانت نقطة الانطلاق، كما ذكرتُ، تتجلى في كون القرآن تجليًّا لله؛ وإذا كانت الرّحمة المُحِبة للإنسان، التي تريده إرادة غير مشروطة، هي تعبير عن ذات الله، فهذا يعني أنني عندما أتعامل مع القرآن فإنني في تواصل مع الحضرة الإلهيّة، أي مع رحمته التي هي ذاته. وهكذا يُمثل القرآن أكثر بكثير من مُجرّد كونه رسالة من عند الله موجهة للإنسان، ففي القرآن يحضر الله بذاته وبرحمته. لذلك تتميز الهيرمينوطيقا التي أقدمها هنا بكونها إذ تطرح السؤال عن كيفية فهم القرآن، لا تقتصر على فهم القرآن بوصفه نصا أو مصدرًا تشريعيًّا، بل تطرح السؤال عن تواصل الإنسان مع الله من خلال القرآن وعن كيفية التعامل مع القرآن على أنه حدثٌ يريد أن يكون فاعلًا روحيًّا عند مُتلقيه في زمننا الراهن أيضا. ومن ثم، يُصبح القرآن تواصلًّا مُراوحًا بين الإلهي والإنسانيّ، يقصد بشكل أساسي دعوة الإنسان للتحرر من كل قيود العبوديّة، ويدعو قارئيه ومستمعيه ليتواصلوا معه كدعوة للحرية الإنسانيّة، كما تواصل معه النبي محمد ﷺ والجيل الأول.

هذا التمييز بين النظر للقرآن على أنه رسالة إلهية تحتوي على مجموعة من التعاليم والتشريعات من جهة، وبين النظر إليه على أنه حدث للحضرة الإلهية حيث تجلى الله في القرآن ليحرك الإنسان كي يصبح يدًا للمحبة والرّحمة من جهة أخرى هو ما سأتطرق إليه في المحور التالي. 

رابعًا. الرّحمة بوصفها مفتاحًا هيرمينوطيقيًّا

لدراسة القرآن

يجعل القرآن الكريم من صِفة الرّحمة الإلهية المركز الذي تدور حوله الرسالة المحمدية: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء 21: 107)، وهو بهذا يعطينا مفتاحًا هيرمينوطيقيا نقرأ القرآن من خلاله. إن الحديث عن الرّحمة لا يقتصر على مغفرة الله لذنوب عباده، إذ يُميِّز القرآن بين اسم الله الرحمن واسمه الرحيم. وقد صنَّف علماء الكلام صِفة الله الرحيم كصِفة فعلٍ لله، تُعبّر عن مغفرة الله لذنوب عباده، أمَّا صِفة الرحمن فهي من أسماء الذات الإلهية التي لا يجوز وصف الله بضدها. أي أن هناك بعدًا للرحمة يتعلّق بمغفرة الذنوب وآخرًا أُطلِقُ عليه مصطلح «البعد الرحماني للرحمة»، يتعلّق بذات الله كما يتعلّق بعلاقة الله بالإنسان.

وردت رحمة الله في مفهومها الرحماني في القرآن الكريم واصِفة ذات الله وجاعلة من اسم الله الرحمن مرادفًا لاسمه الله: ﴿قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَٰنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ ٱلْأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ﴾ (الإسراء 17: 110). كما أنَّ لرَحمانية الله بُعدًا أنطولوجيًّا يتعلّق بخلق الإنسان وببعثه يوم القيامة، إذ الله بصفته الرحمن ﴿عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ﴾ (الرحمن 55: 1-3)، والمرجع والمآل إلى الرحمن: ﴿إِن كُلُّ مَن فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ إِلَّآ ءَاتِى ٱلرَّحْمَٰنِ عَبْدًا﴾ (مريم 19: 93). كما ربط القرآن بين اسم الله الرحمن وعلاقته بالمؤمنين الصالحين بِالْوُدِّ/ المودة: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ ٱلرَّحْمَٰنُ وُدًّا﴾ (مريم 19: 96). والرّحمة هي الصِفة الوحيدة التي كتبها الله على نفسه، مرة في سياق الحديث عن بعث الإنسان يوم القيامة: ﴿كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ﴾ (الأنعام 6: 12)، ومرة في سياق الحديث عن المغفرة الإلهية: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوٓءًا بِجَهَٰلَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (الأنعام 6: 54). لا يسع المجال هنا لذكر جميع الآيات القرآنية المتعلّقة برحمانية الله؛ ما أريد طرحه هنا بداية، يتمثّل في تحديد مفهوم الرحمانية الإلهيّة، ومن ثم محاولة عرض ما يترتب على الرحمانية من مسائل تتعلّق بهيرمينوطيقيا القرآن الثيولوجية التاريخيّة.

يمكن تلخيص معاني الرحمانية في القرآن كصِفة ذات لله تكشف للإنسان عن إرادة الله له، أي أن الله يريد الإنسان وأنه مازال مريدًا له لذات الإنسان، لا لهدف آخر، فهي تُعبِّر عن محبة الله للإنسان كهدف للخلق: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ (المائدة 5: 54).

سأسجّل هنا ملاحظة مهمة سبق وأن أشارتْ إليها أنجيلكا نويفيرت، الباحثة الألمانية في الدراسات القرآنية ومديرة مشروع المدونة القرآنية Corpus Coranicum، حيث توصَّلتْ إلى أنَّ اسم الله «الرحمن» ظهر لأول مرة في القرآن خلال المرحلة المكية الوسيطة (من 615م إلى 619م)، وذلك بصورة مركزة وملفتة للنظر في سورة مريم62، التي عرضتْ قصة مريم وعيسى عليهما السلام. تكررتْ صِفة الرّحمة الإلهية في هذه السورة أكثر من أية سورة أخرى، ليؤكد القرآن بذلك على مبدأ الرّحمة كأصلٍ مُشتركٍ بين رسالتَي محمد وعيسى. وصِفة ذات الله الرحمن في القرآن، كما أشرتُ سابقًا ، كلمة سريانية آرامية الأصل وتعني الإله المحب، وهذا ما عبَّر عنه القرآن حين وصف علاقة الله بالإنسان على أنها علاقة محبة: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ (المائدة 5: 54)63.

إنَّ كون علاقة الله بالإنسان مبنية على الرحمانيّة، التي هي تعبير عن رحمة الله المُحبة للإنسان، يترتب عليها مسائل تدور جميعها حول كون الإنسان هدفا في ذاته، ليس وسيلة لهدف آخر. وهذا هو الأمر الذي يُمكن تأكيد من خلال النقاط الآتية:

1 - إن الرّحمة الإلهية المحبة، ليست الرّحمة كمُجرّد مفهوم للمغفرة، هي القيمة المركزية في القرآن، لذلك يُمكن القول إن الوحي القرآني هو ليس إلا تجلي الرّحمة الإلهية المحبة للإنسان. 

2 - لا يحدث هذا التَّجلي بشكل أحادي الاتجاه، إذ القرآن ليس كلام الله مع نفسه أي بشكل مونولوجي، بل هو تواصل الله مع التاريخ، وإذا صح التعبير، دخول الله في التاريخ، ولذلك لا يمكن فهم الوحي دون فهم تاريخ السياق القرآني في القرن السابع الميلادي.

3 - مهمة هيرمينوطيقا القرآن من هذا المنظور الثيولوجي التاريخي هي الكشف عن رحمة الله في تواصله/ دخوله في التاريخ: أين أصبحت هذه الرّحمة ملموسة؟ كيف غير تجلي الله في وحيه للقرآن المتلقين الأوائل في مكة والمدينة ومحيطهما خلال القرن السابع الميلادي؟ أين كان اتجاه التغيير؟ أتحدث عن اتجاه التغيير عن قصد، ذلك أن القرآن أشار للاتجاه وهو مازال مفتوحًا ويدعوني اليوم لمواصلة الحركة في هذا الاتجاه. هذه «القراءة السهمية» للقرآن مهمة لأنها تؤكد على حركيّة القرآن. الأمر الذي يعني أن القرآن بوصفه تجليًّا لله مازال مفتوحًا للتواصل مع الإنسان. الاتجاه الذي أراد القرآن تحريك المجتمع الأول، مجتمع التنزيل، نحوه لا بد من الاستمرار فيه في سياقنا نحن أيضا، وأعيد التركيز هنا على مسألة الاتجاه وليس النص/ المضمون الحرفي، فيبقى القرآن بهذه الطريقة في صيرورة مستمرة. 

4 - إنَّ مُحاولة الاقتراب من تجربة المُتلقين الأوائل مع التَّجلي الإلهي/ القرآن، أي النبي محمد ﷺ والجيل الأول، سيُساعد على توضيح معنى القراءة السهميّة. فقد خبروا القرآن كتواصلٍ إلهيٍّ مُباشرٍ معهم، وليس بصفته كتابا منزلا من السماء ، وقد كان هذا التواصل معنيًّا بالتعبير عن محبته لهم، ودعوته ليكونوا أيادي الرّحمة من خلال تعاملهم مع الآخرين، وإرادة تحريرهم من الظلم والفقر والخرافة. لقد خبروا الوحي كحدث تجلَّى الله فيه برحمته المحبة لهم، فخبروه كفاعل روحي يصبو لتغيير حياتهم في اتجاه التحرر، أي في اتجاه تجلّي الرّحمة والمحبة من خلالهم هم.

ومن الجدير بالذكر أن هدف هذه الهيرمينوطيقا ليس مُجرّد الكشف عن تجلي رحمة الله من خلال القرآن في التاريخ أي في زمن الوحي، بل هدفها أيضا هو تحديث هذا التَّجلي في زمننا الراهن، وإبراز إمكانيات هذا التحديث في السياقات المختلفة. إذ لا يتمثل الهدف في الوصول إلى المعنى الصحيح والنهائي لنصوص القرآن، فما تُقدمه مقاربتي الهيرمينوطيقية هو صوابية انفتاح القرآن على أفهام عدة تُعبر عن تجلي رحمة الله في القرآن.

يُمكن تلخيص المنهج الهيرمينوطيقي الثيولوجي والتاريخي الذي أُقدِّمه في هذه الدراسة من خلال خُطوتين:

الخطوة الأولى: الكشف عن مظاهر وشواهد تجلي الرّحمة الإلهية في القرآن من خلال السياق التاريخي للوحي. إذ تُركز هذه الخُطوة على البحث في الكيفية التي تحققت من خلالها الرّحمة في تاريخ الوحي، سواء من خلال دراسة كيف أصبح المُتلقي الأول فاعلًا أساسيًّا في تحقيق المقصد من التَّجلي الإلهي، الحب والرّحمة والعدالة والحرية؛ ما هو التغيير الذي بدأه القرآن كتجلي لرحمة الله والتي تعبر عن نفسها في الدرجة الأولى في تحرير الإنسان وتحريكه كي يكون هو أداة الحب والرّحمة الإلهيين؟

الخطوة الثانية: تكريس الوعي بين المسلمين اليوم، بأن التواصل مع القرآن ليس مُجرّد عمليّة فكريّة، أو لغويّة، بغية تفكيك رموز القرآن وفهم نصه، بل تواصل مع الرّحمة الإلهيّة، إنه حدث يدعو الإنسان لأن يكون يدًا لتحقيق المحبة والرّحمة في حياته، وبهذا تسمح الهيرمينوطيقا للمسلمين اليوم اكتشاف هذه الرّحمة في تواصلهم مع القرآن، كلٌ وِفق سياقه التاريخي الخاص به، والسعي إلى تحقيقها في حياته، حيث يُصبح التواصل مع القرآن فعلًا وممارسة للمحبة بدافع المحبة ولهدف المحبة، ويبقى القرآن أيضا حيًّا وناطقًا في حياتهم، لأنه ليس مُجرّد مجموعة تعاليم قيلت في القرن السابع الميلادي ليتوقف بعدها تواصل الله مع الإنسان. القرآن كتواصلٍ مع التَّجلي الإلهي يعني أن الإنسان له دور فعال في هذه العمليّة وأن عليه استحضار سياقه الحالي في هذا التواصل مع الله ليتمكن من تحقيق تجلي رحمة الله. إنَّ الهيرمينوطيقا، وفق هذا المعنى، ليست مُجرّد نظرة للوراء، بل تريد أن تجعل من التواصل مع القرآن حدثًا، فهي أكثر من مُجرّد عمليّة فهم لنص القرآن وفك لرموزه؛ إنها دعوة للانتقال من القراءة أو الاستماع للقرآن إلى مجال الحدث الذي يمس البعد الوجودي للإنسان. إنها دعوة للانتقال من قراءة القرآن على أنه نص لقراءته على أنه فاعل روحي.

إنَّ القراءة الهيرمينوطيقية للقرآن تُمكن من إعادة النظر في مفهوم العبادة، فهي لا تعني مُجرّد امتثال أوامر أو اجتناب نواهي إلهيّة، بل تعني أن يكون الإنسان يدًا لتحقيق المحبة والرّحمة الإلهية وأداتهما، وهذا هو جوهر التدين ومعياره، إنه في الدرجة الأولى الإنسان الذي من خلاله تتجلى رحمة الله وحبه، شريطة أن يقبل هذا الإنسانُ محبَّةَ اللهِ، ليصير بذلك يدًا يعمل الله من خلالها كما جاء في الحديث القدسي المعروف الذي يخبر فيه الله عن علاقته بمحبوبه: «كنتُ سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها وقدمه التي يمشي بها»64. أمَّا إذا رفض الإنسان قبول محبة الله، فسيَحِلّ الظلم، وتنتشر المجاعات، وتنشب الحروب، وتعُمّ الكراهيّة، لِتَحُول جميعها دون تحقق محبة الله ورحمته، كما جاء في الحديث «يا ابن آدم مرضت فلم تعدني»65.

خاتمة 

لقد سعيتُ في هذا البحث إلى دراسة جوانب مُختلفة ترتبط بمفهوم الوحي بوصفه تجليًّا إلهيًّا، وكيف يُمكن استثماره في زمننا الراهن من خلال إعادة فهمنا له، وفق أفق جديد. كما حاولتُ مُعالجة الموضوع بمقاربة هيرمينوطيقية تدمج بين الدراسات اللاهوتية والتاريخيّة للقرآن، بعيدًا عن التحيُّزات المعرفيّة أو الردود الحجاجيّة.

لقد انطلقتُ في بناء الإطار النظري، من مُحاولة الاستفادة من البحث الفلسفي حول الحُرية موازاة مع الاستفادة من التراث الكلامي والصوفي في الإسلام. من جهة، فإنَّ الإله الكامل في ذاته لا يحتاج من أجل كماله على وجود الخلق. ويترتب على هذا أنَّ الإنسان، بوصفه كائنًا يتميّز بإرادة مُستقلة، يقتضي أن يكون خلقُه هدفًا في حد ذاته، لا لحاجة أخرى، ومن هنا يُمكن الانتقال من مفهوم الحرية إلى مفهوم المحبة، إذ الغاية من خلق الإنسان باعتباره إرادة لله أن يُعطي دون أن يأخذ، هي المرادف لمعنى الحب؛ فالحب لا يكون مشروطًا، ولا مُقيَّدًا بالحصول على منفعة أو تحقيق مصلحة. بمعنى آخر، لو كان للكون إله، فلا يمكن أن يكون هذا الإله سوى إله المحبة، الذي يُعطي دون أن يأخذ.

إنَّ التوقف بالبحث عند هذا الحد، سيجعل من الدراسة لاهوتية صرفة، غير أنني حاججتُ في الورقة، بأنَّ الحرية بوصفها قانون المحبة، لها آثار مُهمة على تصورنا لحرية الإنسان، إذا ما استُثمرتْ في بُعدها الأنثروبولجي؛ إذ لا يمكن أن تتحقق علاقة المحبة إلا إذا كانت عن اختيار وإرادة، لا عن إجبار أو تهديد أو خوف. فَكونُ الله هو الإله المحب يشترط أن يكون الله قد منح الإنسان الحريّة، وهيّأ له، في بعد أنثروبولوجيّ، شروطًا تُمكنِّه من التفاعل مع المحبة الإلهية بالقبول أو الرفض. ومن ثم فإنَّ علاقة المراوحة بين الله والإنسان بوصفها علاقة محبة تعني أنها علاقة مبنية على الحريّة، لذلك لن يدخل هذا الإله المحب في التاريخ ويفعل فيه إلا بطرق لا تُقيد حرية الإنسان أو تجعله فاقدًا لها، إذ التفاعل الحر للإنسان مع التَّجلي الإلهي هو قبول للإنسان بأن يكون الله فاعلا في التاريخ من خلاله.

كما تُمكِّن القراءة الهيرمينوطيقية للقرآن على ضوء لاهوت الرّحمة بإعادة النظر في أهم تحدٍ يقف أمام خطاب الرّحمة، إنه ادعاء احتكار الحقيقة المطلقة Religious exclusivism، الذي يترتب عليه النظرة الاستعلائية تُجاه الآخر، إذ يستحضر أتباع دين مُعين أفضليتهم لمُجرّد انتمائهم لدين لا يعتنقه الآخرون، ويترتب على ذلك عنف مادي ورمزي بادعاء أنَّ الجنة والسعادة الأبدية مقصورة عليهم. ولكن كيف يمكن الحديث عن الرّحمة الإلهية مع ادعاء تعذيب الله معظم خلقه، ليس لجرم إنسانيّ ارتكبوه، بل لمُجرّد اتباعهم دين آخر أو عقيدة أخرى؟ إنَّ هذا التحدي يستدعي منا بذل مزيدٍ من الجُهد في الأبحاث والدراسات لتناول هذه المسائل بما يُحقق التوافق مع رحمة الله ومحبته ومكانة الإنسان في الأديان، ذلك أنَّ فهم الدين باعتباره رسالة تحمل القيم الإنسانيّة التي تخدم الإنسان، سيسمح لنا بتجاوز الجانب السلبي من الاختلاف الديني بين المسلم والمسيحيّ واليهوديّ والهندوسيّ وغيرهم، والعناية بجانبه الإيجابي باعتباره إغناء للقيم الإنسانيّة وإثراء لها.

قائمة المراجع

أبو زيد، نصر حامد. مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن. القاهرة: الهيئة المصرية للكتاب، 1990.

الأحمدي، مُقبل التَّامّ عامر. شعراء مذحج: أخبارهم وأشعارهم في الجاهلية. ط 2. صنعاء: مجمع العربية السعيدة، 2014.

الألوسي، محمود شهاب الدين. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني. بيروت: دار إحياء التراث العربي، [د.ت.].

إبراهيم، زكريا. مشكلة الحرية. ط 2. القاهرة: مكتبة مصر، 1963 [1957].

الباقلاني، أبو بكر بن الطيب. الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به. تحقيق محمد زاهد بن الحسن الكوثري. القاهرة: المكتبة الأزهرية للتراث، 2000.

البخاري، محمد بن إسماعيل. صحيح البخاري: الجامع المسند الصحيح المختصر من أُمور رسول الله صلى الله عليه وسلّم وسننه وأيامه. تحقيق جماعة من العلماء. بيروت: دار طوق النجاة، 2001 [بولاق: المطبعة الكبرى الأميرية، 1893].

الجاحظ، عمرو بن بحر. رسائل الجاحظ. تحقيق عبد السلام محمد هارون. القاهرة: مكتبة الخانجي، 1963.

الجمل، بسام. أسباب النزول: علما من علوم القرآن. الدارالبيضاء: المركز الثقافي العربي، 2005.

حمامي، نادر. إسلام الفقهاء. بيروت: دار الطليعة، 2006.

الخضري، محمد. أصول الفقه. ط 6. القاهرة: المكتبة التجارية الكبرى، 1969.

خلّاف، عبد الوهاب. علم أصول الفقه. ط 8. الكويت: دار القلم، 1956.

سيبويه، عمرو بن عثمان. الكتاب: كتاب سيبوبه. تحقيق عبد السلام هارون. ط 3. القاهرة: مكتبة الخانجي، 1988.

الشرفي، عبد المجيد (محرر). المصحف وقراءاته. المقدمة. الرباط: مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، 2016.

ضمرة، معن محمود عثمان. «الحوار في القرآن». رسالة ماجستير. كلية الدراسات العليا، جامعة النجاح الوطنية. نابلس، 2005.

الغزالي، أبو حامد. المقصد الأسنى في شرح معاني أسماء الله الحسنى. تحقيق بسام عبد الوهاب الجابي. نيقوسيا : الجفان والجابي للطباعة والنشر، 1987.

لسنج، إفراييم. تربية الجنس البشري. ترجمة حسن حنفي. القاهرة : دار الثقافة الجديدة، 1977.

نولدكه، تيودور. تاريخ القرآن. ترجمة جورج تامر. بيروت: مؤسسة كونراد – أدناور، 2000.

نويفرت، أنجليكا. «القرآن بوصفه نصا من نصوص العصور القديمة المتأخرة». ترجمة بدر الحاكيمي. مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث. 23/01/2019، شوهد في 02/01/2022، على: https://bit.ly/34Sgwgz

________. «قراءة القرآن في الفضاء المعرفي للعصور القديمة المتأخرة. لماذا نحتاج قراءة أكاديمية للقرآن؟». قنطرة. 08/07/2021، شوهد في 2022/01/02، على: https://bit.ly/3fDTbS2

النيسابوري، مسلم بن الحجاج. صحيح مسلم. تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1955.

Bauer, Thomas. Die Kultur der Ambiguität: Eine andere Geschichte des Islams. Berlin Verlag der Weltreligionen, 2011.

Boisliveau, Anne-Sylvie. Le Coran par lui-même: Vocabulaire et argumentation du discours coranique autoréférentie. Leiden: Brill, 2014.

Diez, Immanuel Carl. Briefwechsel und Kantische Schriften. Wissensbegründung in der Glaubenskrise Tübingen–Jena (1790-1792). Henrich von Dieter (ed.). Stuttgart: Klett-Cotta, 1997.

Essen, Georg & Magnus Striet (eds.). Kant und die Theologie. Darmstadt: Wissenschaftliche Buchgesellschaft, 2005.

Hume, David. Untersuchung über den menschlichen Verstand. Hamburg: Meiner, 1964.

Kermani, Navid. Gott ist schön das ästhetische Erleben des Koran. München: Verlag C.H.Beck, 2018.

________. Offenbarung als Kommunikation das Konzept waḥy in Naṣr Hāmid Abū Zayds Mafhūm an-naṣṣ. Frankfurt am Main: Peter Lang, 1996.

Khorchide, Mouhanad. Gottes Offenbarung in Menschenwort. Der Koran im Licht der Barmherzigkeit. Freiburg im Breisgau: Verlag Herder, 2018.

Krings, Hermann. “Freiheit. Ein Versuch Gott zu denken.” in: System und Freiheit. Gesammelte Aufsätze. Freiburg in Breisgau, München: Alber, 1980.

Lerch, Magnus & Aaron Langenfeld. Theologische Anthropologie. Paderborn: Schöningh 2018.

Lessing, Gotthold Ephraim. Werke. Band 8, Theologiekritische Schriften 3, PhilosophischeSchriften. München: Carl Hanser, 1979.

Neuwirth, Angelika. “The Discovery of Writing in the Qur’ān: Tracing an Epistemic Revolution in Late Antiquity.” in: Nuha al-Shaar (ed.). The Qur’an and Adab: The Shaping of Literary Traditions in Classical Islam. Oxford : Oxford University Press, 2017.

________. “The Qur’ān as a late antique text”. in: Bilal Orfali (ed.). In the shadow of Arabic: the centrality of language to Arabic culture. Leiden: Brill, 2011.

________. Der Koran als Text der Spätantike: Ein europäischer Zugang. Berlin: Verlag der Weltreligionen, 2010.

________. Der Koran. Mittelmekkanische Suren. Bd 2,1: Frühmittelmekkanische Suren. Berlin: Verlag der Weltreligionen, 2017.

Nöldeke, Theodor. The History of the Qurʾān. Wolfgang H. Behn (tran.). Leiden, Boston: Brill 2013.

Pröpper, Thomas. Theologische Anthropologie. Freiburg : Herder, 2011.

Rahner, Karl. Grundkurs des Glaubens: Einführung in den Begriff des Christentums. Sämtliche Werke. Band. 26. Zürich: Benziger, 1999.

Schaeffler, Richard. Unbedingte Wahrheit und endliche Vernunft. Möglichkeiten und Grenzen menschlicher Erkenntnis. Wiesbaden: Springer Fachmedien Wiesbaden 2017.

Schelling, Friedrich Wilhelm Joseph von. Philosophische Untersuchungen über das Wesen der menschlichen Freiheit und die damit zusammenhängenden Gegenstände. Hamburg: Meiner, 1997 [1809].

________. Schellings Offenbarungsphilosophie und die von ihm bekämpfte Religionsphilosophie Hegels und der Junghegelianer Drei Briefe. Berlin: Springer, 1843.

Secrétan, Charles. La philosophie de la liberté. Paris: Germer-Baillière, 1879.

Stosch, Klaus von. Herausforderung Islam: Christliche Annäherung. Paderborn: Verlag Ferdinand Schöningh, 2019.

Stosch, Klaus von. Offenbarung. Paderborn: Ferdinand Schöningh, 2010.

Ungler, Franz. “Die Kategorie Widerspruch.” in: Thomas Sören Hoffmann & Franz Ungler (eds.). Aufhebung der Transzendentalphilosophie? Systematische Beiträge zu Würdigung, Fortentwicklung und Kritik des transzendentalen Ansatzes zwischen Kant und Hegel. Würzburg: Königshausen und Neumann, 1994, p. 217-234.

________. “Ontologie und Transcendentalphilosophie.” Wiener Jahrbuch für Philosophie. (1992), vol. 24, p. 75-85.

Werbick, Jürgen. “Teilnehmer- und Beobachterperspektive: Wissenschaftstheoretische Reflexionen.” in: Khorchide Mouhanad & Marco Schöller (eds.). Das Verhältnis zwischen Islamwissenschaft und islamischer Theologie. Münster: Agenda-Verl., 2012, p. 34-41.


1 Cf. Klaus von Stosch, Offenbarung (Paderborn: Ferdinand Schöningh, 2010).

2 الشواهد في ذلك كثيرة، ويُمكن الإحالة في هذا السياق على بيت شعري منسوب إلى الحارث بن كعب المَذْحِجّي، يعود إلى القرن 2 ق.هـ/ ، جاء فيه: ونُؤْمِنَ بالإنْجيل والصُّحف الّتي *** بها يهتدي مَنْ كان لِلْوَحْيِ تاليا

يُنظر:

مُقبل التَّامّ عامر الأحمدي، شعراء مذحج: أخبارهم وأشعارهم في الجاهلية، ط 2 (صنعاء: مجمع العربية السعيدة، 2014ص 445.

يُنظر أيضا جذر وحي في: معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، شوهد في 05/01/2022، في: https://bit.ly/31rLU4a

3 عبد الوهاب خلّاف، علم أصول الفقه، ط 8 (الكويت: دار القلم، 1956)، ص 21.

4 محمد الخضري، أصول الفقه، ط 6 (القاهرة: المكتبة التجارية الكبرى، 1969ص 210.

5 يُنظر نقد نادر حمامي للعقل الفقهي في الإسلام، في: نادر حمامي، إسلام الفقهاء (بيروت: دار الطليعة، 2006).

6 Cf. Mouhanad Khorchide, Gottes Offenbarung in Menschenwort. Der Koran im Licht der Barmherzigkeit (Freiburg im Breisgau: Verlag Herder, 2018).

7 von Stosch, p. 11.

8 Immanuel Carl Diez, Briefwechsel und Kantische Schriften. Wissensbegründung in der Glaubenskrise Tübingen–Jena (1790-1792), Henrich von Dieter (ed.), (Stuttgart: Klett-Cotta, 1997).

9 Ibid.

10 von Stosch, p. 15.

11 إفراييم لسنج، تربية الجنس البشري، ترجمة حسن حنفي (القاهرة : دار الثقافة الجديدة، 1977)؛

Gotthold Ephraim Lessing, Werke. Band 8, Theologiekritische Schriften 3, PhilosophischeSchriften (München: Carl Hanser, 1979).

12 Lessing, p. 490.

13 Ibid., p. 12.

14 يُلاحظ اليوم نوعًا من عودة الروح الإمبيريقيّة وطغيانها على جميع العلوم، حتى عند الحديث عن الحرية والحب، حيث يبحث بعضهم عن تفسيرات بيولوجية لمثل هذه الخبرات الإنسانيّة، كما يبحث آخرون عن مناطق فسيولوجية في الدماغ هي المسؤولة عن إدراك الإنسان للوحي.

15 David Hume, Untersuchung über den menschlichen Verstand (Hamburg: Meiner, 1964), p. 135f.

16 Richard Schaeffler, Unbedingte Wahrheit und endliche Vernunft. Möglichkeiten und Grenzen menschlicher Erkenntnis (Wiesbaden: Springer Fachmedien Wiesbaden 2017), p. 139ff.

17 Georg Essen & Magnus Striet (eds.), Kant und die Theologie (Darmstadt: Wissenschaftliche Buchgesellschaft, 2005).

18 Jürgen Werbick, “Teilnehmer- und Beobachterperspektive: Wissenschaftstheoretische Reflexionen”, in: Khorchide Mouhanad & Marco Schöller (eds.), Das Verhältnis zwischen Islamwissenschaft und islamischer Theologie (Münster : Agenda-Verl., 2012), p. 34-41.

19 Ibidem.

20 إنَّ القضية هنا ليست إثبات وجود الله أو حقيقة القرآن، بل إثبات معقوليّة الحديث عن تواصل السماء والأرض.

21 Franz Ungler, “Ontologie und Transcendentalphilosophie”, Wiener Jahrbuch für Philosophie, (1992), vol. 24, p. 75-85; Franz Ungler, “Die Kategorie Widerspruch”, in: Thomas Sören Hoffmann & Franz Ungler (eds.), Aufhebung der Transzendentalphilosophie? Systematische Beiträge zu Würdigung, Fortentwicklung und Kritik des transzendentalen Ansatzes zwischen Kant und Hegel (Würzburg: Königshausen und Neumann, 1994), p. 217-234.

22 Mouhanad Khorchide, Gottes Offenbarung in Menschenwort. Der Koran im Licht der Barmherzigkeit, (Verlag Herder: Freiburg im Breisgau 2018).

23 Magnus Lerch & Aaron Langenfeld, Theologische Anthropologie (Paderborn: Schöningh 2018), p. 75.

24 المقولة مُستوحاة مما ذكره يسوع بأن ابن الإنسان جاء ليَخْدِم لا ليُخدم، يُنظر متّى 20: 28؛ مرقص 10: 45

25 Karl Rahner, Grundkurs des Glaubens: Einführung in den Begriff des Christentums, Sämtliche Werke, Band. 26 (Zürich: Benziger, 1999). p. 8-90.

26 Lerch & Langenfeld, p. 76.

27 Ibidem.

28 على سبيل المثال، حين يسأل المرء عن تعريف مُعيَّن لشيء ما، فإنَّه يسأل عن حدود هذا الشيء، غير أنَّ مُجرّد القدرة على السؤال عن الحدود تعني مُسبقًا وجود ما هو خارج هذه الحدود في العقل؛ أي أن السؤال عن الحد هو بنفسه تعالي عن ذلك الحد. إذ لا يستطيع المرء تحديد مدينة ما إلا إذا كان على علم أن هُناك وجود خارج حدود هذه المدينة وإلا لما كان للسؤال عن حدود المدينة أي معقوليّة؛ كذلك حين يعي المرء بأن ذاته نسبية ومحدودة ومتناهية، فإن ذلك لم يكن ممكنًا لولا أن العقل في تعال مستمر ومسبق عن حدوده.

29 من أبرز المؤثرين المعاصرين في الفكر الكاثوليكي الألماني.

30 Lerch & Langenfeld, p. 86-87.

31 Thomas Pröpper, Theologische Anthropologie (Freiburg : Herder, 2011).

32 Hermann Krings, “Freiheit. Ein Versuch Gott zu denken”, in: System und Freiheit. Gesammelte Aufsätze (Freiburg in Breisgau, München: Alber, 1980).

33 أبو بكر بن الطيب الباقلاني، الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به، تحقيق محمد زاهد بن الحسن الكوثري (القاهرة: المكتبة الأزهرية للتراث، 2000) ص 38-39؛ أبو حامد الغزالي، المقصد الأسنى في شرح معاني أسماء الله الحسنى، تحقيق بسام عبد الوهاب الجابي (نيقوسيا : الجفان والجابي للطباعة والنشر، 1987ص 161.

34 يُنظر: معن محمود عثمان ضمرة، «الحوار في القرآن»، رسالة ماجستير، كلية الدراسات العليا، جامعة النجاح الوطنية، نابلس، 2005.

35 قد يكون هذا المفارق الإنسان نفسه، وهذا ما يغلب على الحوارات القرآنية؛ وقد يكون الحوار مُوجها لشخص النبي محمد (المائدة 5: 67؛ الأنفال 8: 64، 65، 70؛ 9: 73؛ الأحزاب 33: 1، 28، 45، 50، 59؛ الممتحنة 60: 12؛ الطلاق 65: 1؛ التحريم 66: 1، 9)؛ أو شخصًا آخر من قبيل حوار الله مع موسى عليه السلام في سورة طه (20: 11-37)؛ أو جماعة معينة من قبيل أهل الكتاب (آل عمران 3: 64، 65، 70، 71، 98، 99)؛ أو نساء النبي (الأحزاب 33: 32)؛ أو الذين آمنوا (وردتْ في آيات كثيرة)، أو الناس دون تحديد (البقرة 2: 21، 168)؛ أو بني آدم (الأعراف 7: 31، 35)؛ كما قد يكون المُحاوَر جمادًا (فصلت 41: 11)؛ أو كائنًا غير الإنسان، من قبيل الحيوانات (النحل 16: 68) أو الملائكة (البقرة 2: 30)، أو إبليس (الأعراف 7: 12).

36 فنقرأ مثلًا آيات قرآنية موجهة لمحمد ﷺ تبدأ بلفظة «يسألونك»، لتجيب بعد ذلك على التساؤل المطروح (البقرة 2: 189، 219، 220، 222؛ الإسراء، 17: 85؛ الكهف 18: 83)؛ أو آيات يُماهي فيها الله بين نفسه والفقير المحتاج فيطلب لنفسه القرض الحسن -الصدقة- (البقرة 2: 245) ؛ أو آيات تنقل لنا غضب الله إزاء من يتجاهل المسكين ولا يحض على طعامه (الماعون 107: 3؛ الحاقة 69: 34)، و أخرى تعبر عن غضب الله إزاء المتكبرالذي يهمز ويلمز، وهو مشغول بجمع المال (الهمزة 104: 1-9)؛ وأخرى تعبر عن تعاطف الله مع المظلومين وتسمح لهم بالدفاع عن أنفسهم (الحج 22: 39).

37 قد يحتج أحدهم هنا أن الباحثين القدامى أمثال الواحدي والعسقلاني والسيوطي قد نقلوا لنا أسباب نزول آي القرآن الكريم، لكن دراسات حديثة مثل أسباب النزول لبسام الجمل توضح أن نسبة قليلة فقط من الآيات القرآنية وصلنا عنها سببًا للنزول، يُنظر: بسام الجمل، أسباب النزول: علما من علوم القرآن (الدارالبيضاء: المركز الثقافي العربي، 2005)

38 Theodor Nöldeke, The History of the Qurʾān, Wolfgang H. Behn(tran.), (Leiden, Boston: Brill 2013);

تيودور نولدكه، تاريخ القرآن، ترجمة جورج تامر (بيروت: مؤسسة كونراد أدناور، 2000).

39 قسم نولدكه التسلل الزمني للقرآن إلى أربعة مراحل: الفترة المكية المبكرة (من 610م إلى 615م)؛ التفرة المكية الوسيطة (من 615م إلى 619م)؛ الفترة المكية المتأخرة (من 619م إلى 622م)؛ الفترة المدنية (من 622م إلى 632م).

لمقارنة عمل نولدكه مع باقي مُحاولات الترتيب التاريخي للقرآن عند كل من العلماء المسلمين القدماء والباحثين الأوروبيين والعرب، يُنظر: عبد المجيد الشرفي (محرر)، المصحف وقراءاته. المقدمة (الرباط: مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، 2016)، ص 63-69.

40 Angelika Neuwirth, Der Koran als Text der Spätantike: Ein europäischer Zugang (Berlin: Verlag der Weltreligionen, 2010).

41 أنجليكا نويفرت، «قراءة القرآن في الفضاء المعرفي للعصور القديمة المتأخرة. لماذا نحتاج قراءة أكاديمية للقرآن؟»، قنطرة، 08/07/2021، شوهد في 2022/01/02، على: https://bit.ly/3fDTbS2 ؛

تقول نويفرت في نص آخر: «الإقصاء الذاتي للشرق الأدنى من التاريخ الأوروبي يسير جنبا إلى جنب مع الإقصاء الغربي للقرآن (...) إن نشأة الكتب المقدسة تحدث في عمليّة التفاعل المُتشرك. بدلا من ذلك، النظرة الغربية للقرآن يُمكن تلخيصها في فكرة سياسية إلى حد كبير، وهي أنَّ القرآن نص أجنبي بالأساس عن الثقافة الأوروبية، بينما الكتب الأخرى التي تنتمي إلى المنطقة الجغرافية نفسها كتبت في نفس التقليد -خاصة الأدب الكتابي وما بعد الكتابي- معترف بأنها وثائق مؤسسة للهوية الأوروبية»، يُنظر: أنجليكا نويفرت، «القرآن بوصفه نصا من نصوص العصور القديمة المتأخرة»، ترجمة بدر الحاكيمي، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، 23/01/2019، ص 14، شوهد في 02/01/2022، على: https://bit.ly/34Sgwgz؛

Angelika Neuwirth, “The Qurʾān as a late antique text”, in: Bilal Orfali (ed.), In the shadow of Arabic: the centrality of language to Arabic culture (Leiden: Brill, 2011), p. 507.

42 Angelika Neuwirth, “The Discovery of Writing in the Qur’ān: Tracing an Epistemic Revolution in Late Antiquity,” in: Nuha al-Shaar (ed.), The Qur’an and Adab: The Shaping of Literary Traditions in Classical Islam (Oxford : Oxford University Press, 2017).

43 إن اعتماد المفسرين على الإعجاز البلاغي للقرآن كأهم حجة على النبوة يؤكد على الطبيعة البلاغية الشفهية للقرآن، فقد جاء القرآن في سياق تاريخي ارتبط فيه المتلقون الأوائل بالبلاغة العربية ووصل فيه الشعر العربي إلى ذروته، يُوضح الجاحظ (776م/ 159هـ869م/ 255هـ) هذا المعنى في قوله: «وكذلك دَهْرُ محمد ﷺ، كان أغلب الأمور عليهم (المتلقون الأوائلوأحسنها عندهم، وأجلها في صدورهم، حُسن البيان، ونظم ضروب الكلام، مع علمهم له، وانفرادهم به. فحين استحكمتْ لفهمهم وشاعت البلاغة فيهم، وكثر شعراؤهم، وفاق الناس خُطباؤهم، بعثه الله عز وجل، فتحداهم بما كانوا لا يشكون أنهم يقدرون على أكثر منه». ورغم أن الجاحظ يُورد فكرته من موضع حجاجي يُظهر إعجاز القرآن، إلا أنَّ طريقة تعامله مع القرآن، كما هو الحال عند المُتلقين الأوائل، تُشير إلى أنَّهم عرَّفوا القرآن بوصفه نصا بلاغيًّا وجماليًّا وشفهيًّا. وكان رأي الجاحظ حول الإعجاز البلاغي للقرآني مُعتمدًا عند من جاء بعده من قبيل أبو بكر الباقلاني (950م/ 338هـ 1013م/403هـ) وبدر الدين الزركشي (1344م/ 745هـ - 1392م/ 794هـ). يُنظر: عمرو بن بحر الجاحظ، «حجج النبوة»، رسائل الجاحظ، تحقيق عبد السلام محمد هارون (القاهرة: مكتبة الخانجي، 1963)، ج 3، ص 279.

44 Klaus von Stosch, Herausforderung Islam: Christliche Annäherung (Paderborn: Verlag Ferdinand Schöningh, 2019), p. 11ff

45 Khorchide, Gottes Offenbarung in Menschenwort.

46 تتحدث العديد من الآيات عن القرآن بوصفه خطابًا شفهيًّا مَتلوًا. يُنظر على سبيل المثال آيات الفترة المكية الأولى والثانية: العلق 96: 1؛ المزمل 73: 4؛ القيامة 75: 18؛ الإسراء 17: 106. كما تطرَّقتْ الباحثة آن-سيلفي بواسليفو عن الكيفية التي عرَّف بها القرآن نفسه، وفي لفظ قرآن نفسه ما يُشير إلى أنه ليس كتابا مُدونًا بل هو ما يتم تلاوته، سواء أمام مُخاطبين من المؤمنين وغيرهم أو في طقوس عبادة عندما كان يتلو النبي القرآن في الصلاة. يُنظر:

Anne-Sylvie Boisliveau, Le Coran par lui-même. Vocabulaire et argumentation du discours coranique autoréférentie (Leiden: Brill, 2014), p. 40-58.

47 Navid Kermani, Gott ist schön das ästhetische Erleben des Koran (München: Verlag C.H.Beck, 2018).

48 تطرق نصر حامد أبو زيد لهذه الفكرة في كتابه مفهوم النص، يُنظر:

Navid Kermani, Offenbarung als Kommunikation das Konzept waḥy in Naṣr Hāmid Abū Zayds Mafhūm an-naṣṣ (Frankfurt am Main: Peter Lang, 1996);

نصر حامد أبو زيد، مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن (القاهرة: الهيئة المصرية للكتاب، 1990).

49 قدَّم العديد من اللاهوتيين حُججًا عقليّة على إثبات وجود إله كامل، ومن أقدم هذه المُحاولات في التقليد المسيحي القاعدة التي وضعها عالم اللاهوت الفيلسوف أنسلم أسقف كانتربري Anselm von Canterbury (ت. 1109م) في دليله الأنطولوجي على وجود الله: الله هو ذلك الذي لا يمكن تصور إله أكبر منه، فهو دائمًا أكبر من تصورنا عنه، وهذه هي القاعدة الإسلاميّة التي تقول: الله أكبر وليس مُجرّد الأكبر.

50 قد يعترض أحدهم أن محبة الله هنا تخص فقط فئة معينة، هي فئة الصالحين، لكن الله ابتدأ في الآية الكريمة بنفسه إذ أحب الله الإنسان ابتداءً، وجواب الإنسان بالقبول، أي بقبول محبة الله تكون بصلاحه وعمله على نشر الرّحمة والعدل في مجتمعه، فالصلاح ليس شرط محبة الله للإنسان، بل هو شهادة تشهد على أن الإنسان قبل محبة الله وبهذا قبل الدخول في محبة الله.

51 زكريا إبراهيم، مشكلة الحرية، ط 2 (القاهرة: مكتبة مصر، 1963 [1957]).

52 cf. Friedrich Wilhelm Joseph Schelling, Philosophische Untersuchungen über das Wesen der menschlichen Freiheit und die damit zusammenhängenden Gegenstände (Hamburg : Meiner, 1997 [1809]).

53 cf. Charles Secrétan, La philosophie de la liberté (Paris: Germer-Baillière, 1879).

54 إبراهيم، ص 164.

55 إبراهيم، ص 164-165

56 منذ تسعينيات القرن الماضي زاد الاهتمام بفلسفة شيلينج، لاسيما في موضوع الحرية والوجود، يُمكن رصد هذا الاهتمام عند العديد من الفلاسفة الألمان، من قبيل مارتن هايدغر Martin Heideggerا(1889-1976) وكارل يسبرز Karl Jaspersا(1883-1969) ويورغن هابرماس Jürgen Habermas وغيرهم.

57 Khorchide, Gottes Offenbarung in Menschenwort.

58 عن إيراد هذا المعنى في تفسير الآية يُنظر: محمود شهاب الدين الألوسي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني (بيروت: دار إحياء التراث العربي، [د.ت.]) ج 8، ص 141؛ وعن إيرادها في كتب اللغة يُنظر: عمرو بن عثمان سيبويه، الكتاب: كتاب سيبوبه، تحقيق عبد السلام هارون، ط 3 (القاهرة: مكتبة الخانجي، 1988) ج 3، ص 247-248.

59 Friedrich Wilhelm Joseph von Schelling, Schellings Offenbarungsphilosophie und die von ihm bekämpfte Religionsphilosophie Hegels und der Junghegelianer Drei Briefe (Berlin: Springer, 1843).

60 Thomas Bauer, Die Kultur der Ambiguität: Eine andere Geschichte des Islams (Berlin Verlag der Weltreligionen, 2011), p. 130.

61 Ibed. p. 130f.

62 Neuwirth, Der Koran als Text der Spätantike, p. 487f; Angelika Neuwirth, Der Koran. Mittelmekkanische Suren. Bd 2,1: Frühmittelmekkanische Suren (Berlin: Verlag der Weltreligionen, 2017), p. 605, 641.

63 إن هذه الآية التي تتحدث عن علاقة الله بالإنسان كعلاقة محبة، وردتْ في سورة المائدة، وقد تحدَّثتْ عن عيسى عليه السلام وعن العشاء الأخير، مؤكِّدةً من جهة أنَّ المحبة والرّحمة هما أصل الأديان السماوية ومِحورها وهدفُها، وجامعة من جهة أخرى بين مفهومي الرّحمة والمحبة.

64 محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري: الجامع المسند الصحيح المختصر من أُمور رسول الله صلى الله عليه وسلّم وسننه وأيامه، تحقيق جماعة من العلماء (بيروت: دار طوق النجاة، 2001 [بولاق: المطبعة الكبرى الأميرية، 1893])، ج 8، ص 105، حديث رقم 6502.

65 مسلم بن الحجاج النيسابوري، صحيح مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي (بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1955ج 4، ص 1990، حديث رقم 2569.